وصفي التل في ذكرى استشهاده الخمسين مرة اخرى



مهما كتبنا في ذكرى استشهاد وصفي التل فلن نفيه حقه. وعليه أقول أن وصفي، كان صاحب مشروع وطني ذو هدفين، الأول بناء المجتمع الأردني على أسس سليمة، والثاني تحرير الأراضي الفلسطينية المغتصبة. ففي المجال الأول قال وصفي : ” لابد من تحديد أمراض ومشاكل المجتمع قبل محاولة بنائه، حتى إذا ما عُرف المرض أمكن معالجة الداء ". وبناء عليه حدد دولته بأن تلك الأمراض ناتجة عن صفات بعض المسئولين التي من أهمها : الاعتذارية، القططية، النعامية، والتمنّن. وهي صفات سلبية معروفة لا أجد حاجة لتفسيرها.

ورغم مرور الزمن على استشهاد وصفي التل، إلاّ أن تلك الصفات الأربعة التي بيّنها في تشخيصه لأمراض المجتمع، ما زالت سارية المفعول من قبل بعض المسئولين هذه الأيام، وخاصة ممن هبطوا علينا بمظلاتهم الغريبة خلال العقدين الأخيرين. فنفّذوا تواصي أسيادهم الغرباء، وعاثوا في البلاد فسادا تتصدره مديونية فلكية، على مرأى ومسمع الجميع، دون خشية من الله أو وازع من ضمير.

وصفي التل كان الزعيم الوطني المخلص، الذي عشق الأردن بشعبه وأرضه وشجره، فاحترم الشعب وحرث الأرض في منطقة الأزرق وقرب بيته في الكمالية، ثم طلب من الفلاحين زراعة القمح، تلك السلعة الإستراتيجية الضرورية. إضافة لذلك فقد وضع برنامجا لزراعة الجبال الجرداء بالأشجار الحرجية، نفذها طلاب المدارس من خلال معسكرات الشباب الصيفية، وحولها إلى غابات خضراء تسر الناظرين.

وصفي كان رئيس الوزراء الذي فتح باب مكتبه لعامة للناس، يستمع لشكاواهم ومطالبهم، ويلبي الممكن منها. وهو من عُرف عنه خلال توليه المسئولية نظافة اليد، ومحاربة الفساد، والحفاظ على المال العام، وإنصاف المظلومين.

وقصة المواطن المعروفة والذي قدم له طلبا للإفراج عن ابنه المسجون، فكتب وصفي إلى مدير المركز الأمني علي الطلب ” يلعن أبو وصفي الذي يُسجن الناس من شأنه ” فأطلق سراحه، ما هو إلاّ نموذج لتسامحه وعطفه على المواطنين.

كان لوصفي بصمة مميزة في كل مجال من مجالات المجتمع. ففي عام 1963 قام وصفي رئيس الوزراء بزيارة إلى مدينة الخليل وكان برفقته المشير حابس المجالي وعدد من الوزراء. فقال له رئيس البلدية محمد الجعبري : أهالي الخليل عطشانين يا أبو مصطفى”. فالتفت وصفي إلى عمر عبد الله دخقان مسئول المياه في الأردن الذي كان يرافقه وقال له : ” يا عمر فيه بئر مياه بالقرب من مخيم الفوار جنوب الخليل، فرد عليه عمر : نعم أبو مصطفى، البئر ممتاز، ولكنه مغلق. فالتفت وصفي إلى حابس باشا وقال له :” يوجد بالعقبة مواسير سريعة الربط، خلي هندسة الجيش تجلب المواسير وبدي الخليل تشرب من مياه الفوار خلال أسبوع ". فقام سلاح الهندسة بتوصيل المواسير ببعضها لمسافة 30 كيلومترا، وشربت الخليل من مياه الفوار فعليا خلال أسبوع.

ومن ذكرياتي معه أنني في أوائل عام 1971 كنت قائدا لكتيبة الحرس الملكي الأولى، مسئولا عن حماية مباني مؤسستي الإذاعة والتلفزيون الأردنيتين. وفي أحد الأيام اتصل معي مدير الإذاعة السيد عبد الرحيم عمر، وأبلغني بأن رئيس الوزراء وصفي التل وقائد الجيش حابس المجالي سيحضران إلى الإذاعة. فاستقبلناهما سويا ودخلنا جميعا إلى مكتب مدير الإذاعة، وأنا لا أعلم ما هي الغاية من تلك الزيارة.

استدعى وصفي الملحّن جميل العاص وأجلسه معنا، ثم قال لمدير الإذاعة سمعّنا الأغنية وكيف قمتم بتلحينها. فانطلق صوت الفنانة سلوى العاص من خلال المذياع المحلي يصدح بأغنية: ”اتخسا يا كوبان ما انته ولف إلي * * ولفي شاري الموت لابس عسكري"، بينما كان وصفي يسجل ملاحظاته على ورقة. وهذه الأغنية الحماسية كان قد نظم كلماتها الزعيمان وصفي وحابس، رفعا لمعنويات المواطنين، بعد استقرار الأمن الداخلي في البلاد.

بعد انتهاء الأغنية أخذ وصفي يعطي إرشاداته إلى جميل العاص، حول استخدام الآلات الموسيقية في الأغنية قائلا: ( قرّب الآلة كذا على الميكرفون.. خفف صوت الآلة كذا.. أضف الآلة كذا للمجموعة.. خلّي الفنانة ترفع الصوت في الكلمة كذا وتخففه في الكلمة كذا..). ثم طلب إعادة سماع الأغنية عدة مرات، إلى أن أخذت الصيغة التي رضي عنها الإثنان، وأمرا يإطلاقها على الهواء من إذاعة عمان.

جرى هذا أمامي وأنا أراقب هذا الفعل مستغربا ما جرى.. رئيس وزراء سياسي وعسكري.. يصحح عمل فنان مخضرم.. كان ذلك شيئا عجيبا بالنسبة لي. وتذكرت في هذه اللحظات بأنني خسرت شيئا كثيرا كان يمكن أن أتعلمه في الماضي، عندما نسبني قائد كتبيتي الشريف زيد بن شاكر رحمه الله، في أواسط الستينات وأنا برتبة ملازم أول، لأكون مرافقا عسكريا لدولته، ولكن أحد كبار القادة المسؤولين رفض ذلك التنسيب.

رحم الله شهيد الأردن وفلسطين وصفي التل ورفاقه الشهداء، وأسكنهم جنات الفردوس الأعلى.