العصامي المزيف.. كيف استطاع إيلون ماسك خداع العالم؟


بالتأكيد كان عام 2021 عاما سعيدا بالنسبة إلى إيلون ماسك، فلم تكد تمر الأيام الأولى من العام حتى ارتقى رجل الأعمال الشهير قائمة أغنى رجال العالم (1)، ولم يكد ينتهي قبل أن تتجاوز ثروته حاجز 300 مليار دولار، ليصبح أول مَن يُحقِّق ذلك الرقم. حسنا، لماذا حقَّق إيلون ماسك هذه الثروة الضخمة؟ الإجابة البديهية هي أنه فعل ذلك بفضل اختراعاته، فالرجل من وجهة نظر الكثيرين هو أحد أهم مخترعي هذا القرن، لكن ماذا اخترع الملياردير ليحظى بهذا الشرف؟ ربما يقصد البعض "باي بال"؟ أم لعلهم يقصدون بذلك السيارات الكهربائية "تيسلا" ذائعة الصيت؟

 

إذا كنت من محبي الخيال العلمي والتكنولوجيا فعلى الأغلب ستعرف سلسلة "ستار وورز" و"ستار تريك"، ومن المرجَّح أنك معجب بإيلون ماسك أيضا بسبب شركته الرائدة في مجال الفضاء "سبيس إكس"، هل تتذكَّر تلك المرة، أو بالأحرى المرات، التي ظهر فيها في أفلام ومسلسلات الخيال العلمي مثل فيلم "آيرون مان" ومسلسل "ذا بيغ بانغ" وأعمال أخرى تُرسِّخ لنموذج الإمبراطور العصامي الذي صنع ثروته بفضل ذكائه؟ في الواقع، يمتلك ماسك قاعدة جماهيرية كبيرة لهذه الأسباب نفسها، لكن ماذا لو أخبرناك أن كل هذا ليس حقيقيا كما يعتقد الكثيرون؟

 

حسنا، وُلد الطفل إيلون ماسك، لوالده إيرول ماسك ووالدته ماي هالدمان، في 24 يونيو/حزيران 1981 في جنوب أفريقيا، وعلى عكس ما يُصوِّره الإعلام ويُصوِّره ماسك نفسه فإن كلتا عائلتَيْ أبويه تنتمي إلى الطبقة المخملية، حيث صرَّح والده يوما: "كان لدينا من المال ما لم يُمكِّنَّا حتى من إغلاق خزانتنا" (2). كان ماسك الأب يعمل مستشارا هندسيا ومُطوِّرا عقاريا ومالِكا لأحد مناجم الزمرد في جنوب أفريقيا، وكانت عائلته تعيش حياة مليئة باليخوت ورحلات التزلُّج على الجليد والحواسيب باهظة الثمن، في حين أن إيلون نفسه تلقَّى تعليمه في مدارس مرموقة باهظة الثمن وهو ما ينكره الآن كلية. (3)

 

عندما انفصل والداه، بقي إيلون بصحبة أبيه في جنوب أفريقيا لفترة، لكنه انتقل إلى كندا لاحقا بوالدته بعد إتمامه سن السابعة عشرة للتهرُّب من الالتحاق بالجيش جنوب الأفريقي، وبعدها التحق ماسك بمنحة في جامعة كوينز. يتذمَّر ماسك كثيرا من دَيْن أثقل كاهله في تلك الفترة، لكنَّ الكثيرين لا يعلمون أنه لم يتخرَّج من المنحة، حيث إنه أخلَّ بالشروط ولم يُكملها، لذا كان عليه سداد تكاليف المنحة للجامعة (4)، وعند انتقاله لجامعة بنسلفانيا، تَشارَك "المسكين ماسك" مع أحد زملائه في شراء عشر غرف نوم استخدمها ملهى ليليا غير مرخَّص.


ويبقى الشيء الرئيسي الذي نجح إيلون ماسك في الترويج به لنفسه هو امتلاكه ذكاء حادا، حيث يُشاع عنه أنه يمتلك درجة ذكاء 155، وهو معدل مرتفع نسبيا، لكن هذا الذكاء لم يُوضَع أبدا تحت الاختبار لتأكيده، والأهم من ذلك أن تصرُّفاته لا تدل على مثل هذا المستوى المرتفع من الذكاء. (5)


على سبيل المثال، كان ماسك خارج نطاق اهتمامات العامة من الناس لفترة طويلة، لم يجذب سوى انتباه البعض من المهتمين بالتقنية والعلوم، وكانوا هم أغلب مشجعيه، حتى جاءت حادثة الكهف في تايلاند. ساعتها، كان مجموعة من المراهقين قد حُبسوا في كهف بحري مع معلمهم، ليُقرِّر ماسك أن هذا أنسب وقت للدعاية لنفسه عن طريق توفير غواصة تُنقذ الأطفال ومعلمهم. كانت الفكرة غريبة للغاية، وغير منطقية إلى درجة أن فيرنون أنثورس، قائد فريق الغواصين المُكلفين بإنقاذ الأطفال، انتقدها بشدة، وقال إنها غير مناسبة لهذه الحالة لسبب وجيه؛ وهو أنّ هناك منطقة منخفضة ضيقة للغاية، حتى إنها لا تتسع لعبوات الأكسجين التي يحملها الغواصون، لذا عليهم خلعها لكي يستطيعوا العبور. كان تجاوز هذه النقطة خطرا للغاية إلى درجة أن أحد أمهر الغواصين، ويُدعى سامان غونان، توفي عندما كان ينقل الأكسجين عبرها أثناء عملية الإنقاذ.

كان أنثورس على حق إذن عندما رفض غواصة ماسك لأنها لن تتمكَّن من اجتياز تلك النقطة المُميتة، لكن هذا الرفض أُخذ بشكل شخصي من قِبَل الملياردير، ودفعه الإحراج إلى مهاجمة أنثورس على تويتر، ويا ليته اكتفى بذلك، بل دفع لمحقق خاص أكثر من خمسين ألف دولار للبحث عن معلومات تُشكِّك في مستكشف الكهوف البريطاني. (6)
 

حينها تساءل الجميع؛ هل هذه الفكرة صادرة عن رجل يُروِّج لنفسه بأنه أحد أذكى الرجال في العالم حقا، أم أنها مزحة ثقيلة ألقاها أحدهم؟ صُدم العديد من متابعي ماسك بهذه الأخبار التي لا تنمُّ فقط عن طباع غريبة لكنها تُشكِّك في ذكاء الرجل أيضا، لكن الصدمة الحقيقية المتعلقة بذكاء إيلون ماسك لم تكن عدم قدرته على فهم مشكلة الغواصة، بل في الورقة البحثية الخاصة بـ "الهايبرلوب" الذي "اخترعه"
 
تمتلئ أحلام إيلون ماسك بتقنيات النقل المتطورة، والاتصال بسرعة فائقة بين جميع أنحاء العالم، والإنتاج مفتوح المصدر. ولكن هل مبادرة "هايبرلوب" (Hyperloop) التي أعلن عنها في هذا السياق ممكنة حقا، أم أنها مجرد خطة أخرى غير واقعية؟ و"هايبرلوب" هي مبادرة نقل تهدف إلى تبسيط السفر، حيث يُركَّب الهايبرلوب على وسادة مغناطيسية، ويتنقل داخل أنبوب مغلق مُفرَّغ لتقليل الاحتكاك. يسعى الهايبرلوب إلى نقل البضائع والأشخاص بسرعة كبيرة بين نقطتين، شأنه شأن أي وسيلة مواصلات، لكن المفاجأة أن الفكرة ليست جديدة على الإطلاق.


 

الهايبرلوب هو نظام نقل سريع للركاب والبضائع يمكن أن يصل إلى سرعات تبلغ نحو 1200 كم/ساعة. كانت خطة ماسك الأولى هي نقل الناس من وسط مدينة لوس أنجلوس إلى سان فرانسيسكو في 30 دقيقة عبر مسافة تزيد قليلا على 600 كم. تتلخَّص الفكرة في دفع كبسولات مضغوطة مُصمَّمة خصيصا باستخدام القوة الكهرومغناطيسية داخل أنبوب شبه مُفرَّغ لتقليل الاحتكاك، تتحرَّك هذه الكبسولات على وسادة من الهواء داخل الأنبوب باستخدام قضبان مُصمَّمة خصيصا بطريقة مماثلة للقطارات المغناطيسية، فيما يتولى ضاغط كهربائي في مقدمة الكبسولة مهمة دفع الهواء إلى الخلف. (7)

تُركَّب أنابيب الهايبرلوب على أبراج مقاومة للزلازل يصل ارتفاعها إلى 30 مترا، ويمكن أن تمتد بجانب الطرق السريعة، وهي تُشغَّل بواسطة محركات وبطاريات طوَّرتها شركة "تيسلا" وألواح شمسية على السطح الخارجي للأنبوب. يُتعامَل مع الحركة الأمامية والتباطؤ بواسطة مُحرِّك كهربائي مسطح مثالي لخلق حركة في خط مستقيم.


 

حسنا، نظريا كل شيء يبدو مثاليا، وتبدو الفكرة مستقبلية للغاية، لكنها في الحقيقة باهظة التكلفة، والأهم أنها لا تكاد تُقدِّم أي جديد، فكل ما ذُكر موجود بالفعل في القطارات الحديثة المُفرغة (vacuum trains)، وحتى عندما جعل إيلون ماسك فكرته مفتوحة المصدر وأخذتها الشركات لتُطبقها لم يكن يدري أنهم سيكتشفون قلة جدواها، كما أنّهم سيضطرون لإزالة "الوسادة" عن العربة، وبذلك يصبح المُخرَج في النهاية قطارا مثل قطار شنغهاي السريع، لكن بتكلفة أعلى. (8)

 

المُثير للدهشة أن إيلون ماسك خدع متابعيه على موقع تويتر عندما أخبرهم أنه تلقَّى قبولا شفهيا لشركته "بورينغ" من أجل الهايبرلوب، في حين تبيَّن بعدها أن ذلك لم يحدث على الإطلاق.



لم تبدأ مراوغات ماسك مع هذه الواقعة، لكنها تعود إلى نسبته الفضل لنفسه وحده في تأسيس "باي بال". حسنا، بدأ كل شيء عام 1995، وعوضا عن دراسة الدكتوراه في ستانفورد، حاول إيلون وأخوه كيمبل الاستفادة من بدايات شبكة الإنترنت لإنشاء "directory" أو شبكة معلوماتية عالمية ستُعرَف فيما بعد باسم "Zip 2″، كان دورها هو إقناع رجال الأعمال بوجود حضور رقمي لهم في دليل رقمي يشبه دليل الهاتف المعروف.

 

وهنا يأتي السؤال: من أين جاء المال الذي بدأ به ماسك شركته؟ نعم، يمكنك أن تتوقَّع الآن، كان مصدر المال هو والده الذي أغدق عليه 28 ألف دولار، صحيح أن الرجل لا يتوقَّف عن ذكر كُرهه لوالده، لكن على ما يبدو فإن هذا الكُره لم يمنعه من التمتع بهذه الهبة (9)، وكذلك بهبات والدته ماي هالدمان.


 

أما عن "باي بال"، فحكايته تبدأ بعد بيع ماسك شركة "Zip2" وتأسيسه لما سمَّاه في ذلك الوقت "X.com". وهنا قد تجد نفسك على دراية بما قاله ماسك حول رغبته في تطوير قطاع البنوك وتحويلها إلى بنوك رقمية، لكنك لن تجده يذكر أسماء معاونيه في تلك المساعي، مثل هاريس فريكر المؤسس الآخر لشركة "إكس" والخبير المصرفي، وكذلك المديرون المساعدون أمثال إدوارد هو، وكريستوفر بيين. لتتبيَّن ما يحدث، ربما عليك أن تُلقي نظرة على صفحة شركة "إكس دوت كوم" على ويكيبيديا الإنجليزية، حيث لن تجد سوى اسم إيلون ماسك، ثم تنتقل إلى النسخة الإسبانية حيث ستجد أسماء الجميع، فمَن يُعيد كتابة تاريخ الشركة لصالح إيلون ماسك؟

 

الأكثر أهمية ضمن هذه الأسماء هو هاريس فريكر، المصرفي الحاصل على درجة الماجستير من جامعة أكسفورد المرموقة، والرجل المناسب تماما لشركة "إكس دوت كوم" في ذلك الوقت. التقى ماسك بفريكر أثناء المنحة التي تلقَّاها في بنك نوفا سكوتشيا، وأقنع فريكر أن يشاركه في مشروعه في نوفمبر/تشرين الثاني 1999، وبشرائه النصيب الأكبر من الشركة حرص ماسك أن تكون له اليد العليا في الشركة، فعيَّن شخصا آخر (بيل هاريس) في منصب المدير التنفيذي، وهو ما رفضه فريكر لأنه أتى من كندا إلى وادي السيليكون خصيصا ليؤسِّس هذه الشركة. (10)



كان هناك اختلاف في الرؤى أيضا، أراد فريكر أن يؤسس لبنك رقمي، وأراد ماسك ثورة مالية في قطاع البنوك، فاتهمه فريكر بأنه يبالغ في تقييم منتج شركتهما، وحمي وطيس الخلافات حتى إن فريكر قام بانقلاب ضد ماسك وبيل هاريس ليتولى هو منصب المدير التنفيذي، لكن مساعيه فشلت فغادر في النهاية بصحبة أفضل مهندسي البرمجيات في الشركة بعد ستة أشهر من تأسيسها. (11) في هذه الأثناء، ظهرت شركة تحمل فكرة "X.com" نفسها تُسمى "كونفينتي"، أُسِّست على يد بيتر ثيل وماكس ليفشن، واشتهرت بخدمة المدفوعات التي تُقدِّمها تحت اسم "باي بال". طُوِّرت الخدمة خلال عام 1998 وأُطلقت في يوليو/تموز للعام التالي، أي قبل أن ينقلب فريكر على ماسك. هنا نرى بوضوح أن ماسك لم يؤسس الشركة الأم لباي بال "كونفينتي" أو يكتب الكود الخاص بها، كما أن الشركة غيَّرت اسمها من "كونفينتي" إلى "باي بال" في 2001 عندما طرد ماسك لفترة من إدارة شركته. وهنا تتجلى حقيقة أكبر مزاعم إيلون ماسك أنّه هو مؤسس "باي بال".

 

تلاعب في الأسواق
لكن ذلك لا يعني أن إيلون ماسك لا يعرف جيدا ما يفعله. يدرك الرجل وزنه وتأثيره بوضوح، وكيف يمكن أن يُحرِّك الأسواق عبر حسابه على تويتر كما فعل مرارا مع سوق العملات المُشفرة. غرَّد ماسك كثيرا عن البيتكوين، مما أدَّى إلى ارتفاع سعرها، كما تسبَّبت تغريداته في تحريك عملات أخرى مثل دوجكوين صعودا وهبوطا.


 

عبر إحدى تغريداته، تسبَّب إيلون ماسك في رفع سعر عملة بيتكوين بنسبة 10% تقريبا. وعلى الرغم من أن تغريدات ماسك لا تُنشر بالضرورة لتحقيق مكاسب مالية خاصة به، فإنها يمكن أن تؤثر تأثيرا كبيرا على المستثمرين في العملات المشفرة، كما أنها تُثير تساؤلات حول صلابة السوق. في إبريل/نيسان، أصبحت منصة تبادل العملات المشفرة "كوينبيز" (Coinbase) أول شركة رئيسية للعملات المشفرة تُطرح للاكتتاب العام في الولايات المتحدة، وبدا أننا دخلنا بالفعل إلى عصر العملات الرقمية.


ثم بدأت الأسعار تدور مجددا في الاتجاه المعاكس. في مايو/أيار غرَّد إيلون بأن "تيسلا" لم تعد تقبل الدفع بعملة البيتكوين بسبب المخاوف البيئية بشأن استخدامها للطاقة الملوثة للبيئة، بعد شهرين فقط من إعلانه قبولها. نتيجة لذلك، انخفض سعر البيتكوين بنحو 15%.



بشكل مُماثل، دفع الرئيس التنفيذي لشركة "سبيس إكس" أسعار عملة دوجكوين إلى أعلى بنسبة 30% في الشهر نفسه، بعد تغريدة قال فيها إنه يعمل مع مطوري دوجكوين لتحسين كفاءة العملة. تسبَّبت تغريدة مماثلة في وقت لاحق في ارتفاع أسعار العملة مجددا، وفي الشهر نفسه قالت شركة "سبيس إكس" أنها ستقبل الدفع بالعملة المشفرة لتمويل رحلة إلى القمر. كل هذا يعني أن تغريدات ماسك تؤثر تأثيرا كبيرا على أسعار العملات، ويوضِّح الشكل التالي كيف أثَّرت تغريدات ماسك على عملة بيتكوين خلال شهر واحد (مايو/أيار – يونيو/حزيران 2021).


في هذا السياق، تقول "جالين مور"، مدير البيانات والفهارس في "CoinDesk": "في العملات المشفرة، من المهم فهم الميمز والتفاعلات الاجتماعية بقدر أهمية فهم التكنولوجيا"، مُضيفة أن ماسك يُثير أسئلة غير مريحة حول التلاعب بالأسعار. وفي النهاية، تنصح مَن يثقون في كلام الرجل بالتفكير مرتين قبل شراء أو بيع أي عملة رقمية، لأنه تسبَّب في خسارة الكثيرين بسبب تحكُّمه في السوق. (12)