داعية عمل مع نيكسون وحاربه كيسنجر بسبب فلسطين (بورتريه)

 


كلمة واحدة وردت في الإسلام أخذت بشغاف قلبه ووضعته أمام قرار تغيير نمط حياته كاملا، وهي "العدالة".
وجد أن الإسلام هو "المنهج الوحيد الذي يحمل العدالة في مقاصد الشريعة وفي الكليات والجزئيات والضروريات"، بحسب أشهر أقواله. وهو كمحام وقانوني متخصص كان يسعى دائما للعثور على مبادئ ليست من وضع البشر، ووجد "كل هذه المثل العليا في الإسلام".
فاروق عبد الحق، الذي ولد عام 1929 في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس بالولايات المتحدة الأمريكية تحت اسم روبرت ديكسون كرين، كان يتمنى وهو في سن المراهقة أن يصبح صحفيا دوليا، حتى أنه تعلم اللغة الروسية لهذا الهدف، وفي عام 1948، أصبح أول أمريكي يقبل في جامعة ميونيخ في ألمانيا الشرقية.
حصل على شهادة الحقوق من "جامعة هارفارد" بأمريكا، والماجستير في الأنظمة القانونية المقارنة من "هارفارد"، والدكتوراه في القانون العام ثم الدكتوراه في القانون الدولي والمقارن من الجامعة ذاتها.
أسس "صحيفة هارفارد" و"جمعية هارفارد" للقانون الدولي، كما شارك في تأسيس مركز الدراسات الإستراتيجية الدولية، وأهلته خبراته للعمل في المراكز الاستشارية لصناع السياسة في واشنطن. ‏
وفي عام 1963 كتب كرين مقالة طويلة عن روسيا وأمريكا، وقرأ الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون هذه المقالة وهو في الطائرة، واستدعى كرين وكلفه بوضع كتاب حول السياسة الخارجية الأمريكية وحول الشيوعية.
وما بين عامي 1963 و1968 كان أكبر مستشاري الرئيس نيكسون في السياسة الخارجية.
وفي عام 1969 عينه نيكسون نائبا لمدير مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، وتصادف في نفس الوقت أن تسلم هنري كيسنجر منصب وزير الخارجية الأمريكية الذي طلب من كرين فورا ترك موقعه بسبب 25 ورقة وردت في كتاب له تضمن موضوعا عن فلسطين.
يقول كرين: "اقترحت يومها تشكيل دولتين يهودية وفلسطينية، وقد بحث هذا الموضوع لسنوات عديدة على أعلى المستويات في دوائر الولايات المتحدة وفي البيت الأبيض، ولكن كيسنجر كان ضد كل إنسان يبحث في هذا الموضوع، ووقف ضدي في كل مجال دخلت أو عملت فيه، ثم عينني نيكسون نائبا لإدارة شؤون إحدى الولايات في البيت الأبيض، كما عملت في مسألة ووترغيت".
تعرف كرين على الإسلام بوسيلة غير متوقعة نهائيا، وربما قادته الأقدار إلى ذلك، فقد كلف الرئيس نيكسون المخابرات المركزية الأمريكية (سي أي إيه) بتقديم مجموعة من التقارير، فقدمت له تقريرا كاملا عن "الأصولية الإسلامية" التي لم يكن وقتُه يسمح بقراءتها، فطلب من كرين أن يقرأ البحث ويختصره له.
ومع أن التقرير كتب بأيدي "سي أي إيه" وليس بأيد إسلامية أو بحثية أو فكرية، إلا أنه ترك عند كرين أثرا حسنا ولمس قلبه وعقله.
تابع بأمر من حكومته ندوات ومؤتمرات عن الإسلام شارك فيها عدد من قادة الفكر الإسلامي، إضافة إلى لقائه مع البروفسور روجيه جارودي في دمشق وتعرفه على أفكاره، وهكذا انشرح قلبه للإسلام وأعلن إسلامه وأطلق على نفسه اسم فاروق عبد الحق تأسيًا بالصحابي الفاروق عمر بن الخطاب الذي يعد إماما في العدل، والذي فرق بين الحق والباطل.
يقول: "في عام 1980 تابعت بأمر من حكومتي ندوات ومؤتمرات عن الإسلام شارك فيها عدد من قادة الفكر الإسلامي، منهم داعية ومفكر إسلامي سوداني شهير تكلم عن مبادئ الإسلام وحركيته، ثم رأيته يصلي ويسجد فاعتقدت أن في هذا السجود إهانة له ولإنسانيته، ثم أدركت بعد ذلك أن الشيخ ينحني لله وليس لبشر كائنا من كان، وأنه يسجد للخالق وحده ويعرف سر وجودنا على الأرض، لقد أعملت عقلي بعد استفاقة قلبي، وبما لي من ثقافة وعلم تيقنت أن هذا الطريق هو الطريق الصحيح".
وقلت في نفسي: "إذا كان الترابي ينحني لله ويسجد له، فالأولى أن أنحني وأسجد أيضا، وهكذا فعلت، ودخلت الإسلام من يومها على يده".
يقول في سبب إسلامه: ‏"بصفتي دارسا للقانون، ‏فقد وجدت في الإسلام كل القوانين التي درستها، ‏بل وأثناء دراستي في جامعة هارفارد لمدة 3 سنوات لم أجد في قوانينهم كلمة العدالة ولو مرة واحدة، هذه الكلمة وجدتها في الإسلام كثيرا".
وفي عام 1981 عينه الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان سفيرا للولايات المتحدة في دولة الإمارات العربية، قبل أن يترك المنصب ويعود إلى حياته المدنية بسبب خلافاته مع إدارة ريغان.
تفرغ بعدها لموقعه مديرا للمركز الإسلامي في واشنطن بين عامي 1983 و1986، قبل أن ينضم إلى المعهد الدولي للفكر الإسلامي الذي أسسه إسماعيل راجي الفاروقي والسياسي الماليزي أنور إبراهيم، وكان أكثر مكان شعر فيه عبد الحق بالراحة.
وعمل كرين لسنوات عديدة في المنظمات الفكرية والسياسية للمسلمين حول العالم، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وحاول إرشاد الناس ونقل تجاربه الخاصة لهم عبر كتاباته. كما أسس مركز الحضارة والتجديد في أمريكا، وأسس رابطة المحامين الأمريكيين المسلمين.
ومع اقتراب تقاعده عام 2014، ذهب كرين إلى مدينة الدوحة عاصمة قطر ليواصل حياته العلمية مستفيدا من إتقانه ست لغات حية.
وأثار عبد الحق جدلا حين دعا إلى العودة إلى "حكمة الإمبراطورية العثمانية". قائلا: "بهذه الطريقة يمكن تبوُّؤ القيادة، وتطوير نموذج تركي من المحيط الأطلسي إلى الصين". جاء ذلك في كلمة ألقاها عام 2018 في أعمال "المنتدى الفكري" الذي نظمته القناة التركية الرسمية الناطقة بالإنجليزية "تي آر تي وورلد" بمدينة إسطنبول.
وكثيرا ما وجه عبد الحق النقد إلى الغرب لنظرته المنحازة والقاصرة تجاه الإسلام، في نفس الوقت لم ينس توجيه اللوم إلى بعض المسلمين في الشرق أو الغرب ممن لا يفهمون ولا يطبقون التعاليم الإسلامية، يقول: "الكثير من المسلمين الذين يعيشون في الغرب لا يمارسون ولا يعيشون حسب تعاليم الإسلام".
من ضمن تجاربه المؤثرة التي يرويها كرين بشغف: "كنا في حوار قانوني، وكان معنا أحد أساتذة القانون من اليهود، فبدأ يتكلم ثم بدأ يخوض في الإسلام والمسلمين، فأردت أن أسكته، فسألته: هل تعلم حجم قانون المواريث في الدستور الأمريكي؟ ‏قال: نعم، أكثر من ثمانية مجلدات. ‏فقلت له: إذا جئتك بقانون للمواريث فيما لا يزيد على عشرة سطور فهل تصدق أن الإسلام دين صحيح؟ قال: لا يمكن أن يكون هذا. ‏فأتيت له بآيات المواريث من القرآن الكريم وقدمتها له. ‏فجاءني بعد عدة أيام يقول لي: لا يمكن لعقل بشري أن يحصي كل علاقات القربى بهذا الشمول الذي لا ينسى أحدا ثم يوزع عليهم الميراث بهذا العدل الذي لا يظلم أحدا".
كان يقف بكل احترام للجهد الكبير الذي قدمه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه الشهير "الاستشراف". يقول: "أعطى (سعيد) هذا الموضوع حقه بشكل علمي وموضوعي، ولا أخفي اتفاقي الكامل على كل ما جاء في هذا الكتاب القيم".
يضيف: "الاستشراف هو دراسة ثقافة ودين الشرق، وقد تركزت هذه الدراسات على الدين الإسلامي بشكل خاص، ولا بد من القول بأن الاستشراف هو نظرة غربية إلى الإسلام والمسلمين، والكتابات الاستشرافية لم تخضع لمنهج علمي محدد، بل هي مجرد رؤية غربية للشرق، فيها استعلاء وتحامل على الشريعة الإسلامية وعلى الإسلام".
لم تتعبه سنوات عمره (92 عاما)، ولم يتوقف في آخر أيام حياته عن الاهتمام بشؤون العالم الإسلامي، حيث أجرى تقييمات بشأن المسلمين الهنود، وشدد على أن المسلمين يجب أن يتصرفوا بشكل "أكثر نشاطا وأن يكونوا مؤثرين في مجتمعهم بشكل أكبر".
كما كانت له ورقة بحثية ودراسية موسعة لما شهده الوطن العربي تحت مسمى "الربيع العربي"، وما مر به الإسلام السياسي بعد ذلك.
وتبقى حياة وتجربة فاروق عبد الحق، ضوءا يبعث على الأمل بعدالة رسالة الإسلام، وبأن الجميع لم يعطوا هذا الدين العظيم حقه من الاهتمام والالتزام.

  عربي 21