بعد قرن على إعدامهما.. ريا وسكينة مجرمتان أم مناضلتان ضد الاحتلال؟
ظهرت الممثلة حورية فرغلي بعد إجراء عمليات تجميل في أنفها قبل أشهر لتعلن استئناف العمل في فيلم "براءة ريا وسكينة"، والذي يروي سيرة مختلفة تبرئ امرأتين جرى إعدامهما قبل قرن، وتشارك الممثلة وفاء عامر في بطولة العمل.
وتعتمد الرواية الجديدة والمختلفة لسيرة أشهر مجرمتين (أعدمتا في 21 ديسمبر/كانون الأول 1921) في تاريخ مصر الحديث على فكرة قدمها كاتب يدعي أنهما مناضلتان ضد الإنجليز إبان ثورة 1919، وأنه جرى تعمد تشويههما لصالح السلطة الحاكمة، لتكونا عبرة لكل من يقاوم الاحتلال وقتها.
رواية مناقضة للرواية الرسمية
ولاقت هذه الرواية عند نشرها قبولا لدى البعض ممن اعتبروها منطقية، ولا سيما مع ظهور قرائن تقول إن هناك دوافع أخرى غير السرقة كانت وراء القتل، كما أن الدليل الأول الذي قاد الشرطة وقتها لاتهامهما كان اكتشاف جثة في بيت كانت تستأجره ريا.
وتداول مغردون على تويتر تغريدات تتبنى الرواية الجديدة المناقضة تماما للرواية الرسمية السائدة لقرن كامل.
ويرى متابعون أن رواج الرواية الجديدة جاء على سبيل الاحتفاء بما هو مختلف، خاصة أن المزاج الشعبي يميل إلى تصديق ما ينعش خياله للبحث عن نماذج لأبطال شعبيين قاوموا الاحتلال كما جرى في قصة أدهم الشرقاوي الذي اعتبرته السلطة آنذاك لصا يقتل بدافع السطو.
بينما احتفى المزاج الشعبي بالشرقاوي ومجّده باعتباره مناضلا ضد الإنجليز ارتكب أعمال قتل بدوافع وطنية، وللمفارقة فقد قُتل الشرقاوي في نفس عام إعدام ريا وسكينة وعلى بعد عشرات الأميال منهما في محافظة البحيرة شمالا الواقعة جنوب الإسكندرية حيث وقعت جرائم ريا وسكينة.
ويرى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في كلية الآداب بجامعة القاهرة محمد عفيفي أن "ما يُكتب عن الدور البطولي لريا وسكينة في مكافحة الإنجليز على وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك) هو محض هراء"، مؤكدا في تصريحات صحفية أنهما كانتا "سفاحتين اشتركتا في ارتكاب الجرائم المنسوبة إليهما تاريخيا والمعروفة للجميع من خطف وسرقة وقتل، وهي من أبشع الحوادث التي كشف عنها خلال القرن الماضي، وهي وقائع حقيقية".
رحلة السقوط
وفي بيت يقع بشارع ماكوريس خلف مركز شرطة في الإسكندرية قبض على الشقيقتين ريا وسكينة ومعاونيهما من الرجال.
وروى محمد حمدي (نجل الشرطي إبراهيم حمدي) -في تصريحات صحفية أول أمس الأربعاء- كيف تنكر والده في زي امرأة للقبض على أفراد العصابة، وعندما شرعوا في كتم نفسه بمنديل أخرج سلاحه وأطلق رصاصات كانت إشارة للقوة الشرطية لدخول البيت والقبض عليهم.
وأضاف الابن (83 عاما) تفاصيل دقيقة للرواية التي جسدها الممثل أنور وجدي عن تلك الواقعة، وجرى تكريم والده بشكل كبير على دوره في كشف الجريمة.
وما عرفت به ريا وسكينة هو ما جسدته الأعمال الفنية عنهما -أشهر من قدمها الفنانة سهير البابلي والفنانة شادية- من ارتكابهما جرائم قتل لنحو 17 امرأة.
ورغم أن تشكيلة العصابة مكونة من 6 أفراد (ريا، وسكينة، وحسب الله، وعبد العال، وعرابي وعبد الرازق) فإنهما حظيتا بالشهرة الكبرى، لتصبحا عنوانا لمعظم الأعمال الفنية البالغة نحو 12 عملا فنيا بين أفلام ومسلسلات ومسرحيات وأعمال إذاعية، لتكونا أكثر شخصيتين نسائيتين جرى اقتباس قصصهما في الأعمال الفنية العربية.
إفراز الظروف
وكانت الحرب العالمية الأولى قد وضعت أوزارها توا مخلفة أطنانا من المعاناة للمصريين بفعل اشتراكهم غير المباشر فيها، باعتبارهم واقعين تحت الاحتلال الإنجليزي والوصاية العثمانية، وكانت الدولتان (بريطانيا وتركيا) عدوتين في تلك الحرب.
وتحت وطأة الظروف الاقتصادية الطاحنة لجأت الكثير من النسوة للعمل في الدعارة السرية، للحفاظ على مستوى معيشي لائق، وفي نفس الوقت يخشين الفضيحة إذا ما انخرطن في الدعارة الرسمية المقننة التي تقتضي التسجيل في سجلات الحكومة والعيش في شوارع وأحياء مخصصة لهذا النشاط.
ويتبنى الكاتب الراحل صلاح عيسى في كتابه "رجال ريا وسكينة" هذه الزاوية التي لا تبرئ الظروف مما دُفعت المرأتان إليه، معتبرا أنها أفرزت هذه الأنماط الإجرامية.
ولم تكن الشقيقتان بعيدتين عن هذا المناخ، فهما في الأساس من أسرة متواضعة الحال من أسوان بأقصى جنوب مصر، ونزحتا إلى محافظة البحيرة، لتتخصصا في نشاط استدراج الرجال الأثرياء ثم سرقتهم وقتلهم إذا استلزم الأمر بمعاونة من أفراد العصابة، قبل أن يتطور الأمر بعد فرارهما للإسكندرية شمالا ويصل عدد أفراد العصابة إلى 6 وتنحو لقتل النساء للاستيلاء على ذهبهن.
ولم يكن كتاب عيسى هو الوحيد الذي ألقى باللائمة على الظروف التي دفعتهن للجريمة، فمسرحية "ريا وسكينة" -التي جسدت فيها الممثلتان الراحلتان شادية وسهير البابلي شخصيتي ريا وسكينة- تبنت هي الأخرى وجود دوافع مرغمة لهما على السقوط في هذه البئر.
ووصلت حصيلة الضحايا اللاتي اتهمت السلطة تلك العصابة بخطفهن وقتلهن إلى 17 امرأة في الفترة بين ديسمبر/كانون الأول 1919 ونوفمبر/تشرين الثاني 1920، وذلك عبر قيام الشقيقتين باستدراج الضحية ثم تسقيانها خمرا لشل قدرتها على المقاومة.
وليأتي بعدها دور عبد العال -كما جاء في التحقيقات- لكتم نفس الضحية بمنديل مبلل، فيما يتولى شخص آخر شل ذراعيها، ثم تجرد الضحية من حليها وتدفن مكانها، وتستعيد الشقيقتان دورهما في الجريمة ببيع الذهب المسروق وتتقاسم العصابة عوائده.
وفي 11 ديسمبر/كانون الأول 1920 تلقى "اليوزباشي" إبراهيم حمدي نائب مأمور قسم اللبان في الإسكندرية إشارة ببلاغين بالعثور على جثتين لامرأتين، وجدت إحداهما في شقة كانت تستأجرها سكينة.
هذا الخيط اعتبره من يعتقدون ببراءة المرأتين دليلا ضعيفا، بل ومفتعلا، خاصة مع ربطه بالدليل الآخر الذي قاد إلى ريا، وهو شك مخبر في كثافة البخور المنبعث من غرفتها، لتنتقل قوة من الشرطة إلى الغرفة وتكتشف جثة امرأة فيها.
وارتكبت الجرائم في 4 منازل جميعها تقع قرب ميدان المنشية، وباتت هذه المنازل مزارات سياحية للمصريين والعرب بالمدينة حاليا.
ومن الشكوك التي يقدمها منتقدو تلك الرواية أنها اعتمدت على شاهد الإثبات الأقوى فيها، وهي الطفلة بديعة (ابنة ريا) رغم أنها كانت صغيرة ولا يمكن الركون إلى شهادتها.
وفي ظل التضارب والارتباك اعتذر وكيل النائب العام في الإسكندرية كامل بك عزيز عن نظر القضية بعد أن ظل 12 يوما يحقق دون جدوى، ولم يصل إلى أي دليل إدانة دامغ ضد ريا وسكينة، وهو الأمر الذي يعزز التفسير الآخر الذي يبرئ المرأتين.
وجرى تكليف وكيل نيابة جديد حسم القضية بعد 3 أيام فقط من وصوله، وليقدم القضية إلى المحكمة التي قضت بالإعدام شنقا على أفراد العصابة الستة.
وواجهت المحكمة مأزق إعدام امرأة لأول مرة في تاريخ البلاد، إلا أنها اعتبرت أن قضية ريا وسكينة تكاد تخلو من أي مبرر للرأفة التي سبق أن اتبعها القضاء مع النساء.
النهاية
وفي يوم الأربعاء 21 ديسمبر/كانون الأول 1921 جيء بريا وهي ترتدي ملابس الإعدام الحمراء وعلى رأسها قبعة بيضاء، خائرة القوى، ممتقعة الوجه وفق وصف محرر الأهرام في ذلك الوقت، واستمعت بصمت إلى حكم الإعدام الذي تلاه عليها مأمور السجن، ثم أُدخلت إلى غرفة الإعدام.
تبعتها سكينة وهي تكثر من الحركة والكلام بثبات انفعالي ملحوظ وجرأة واضحة، بحسب وصف المحرر، فيما كان مأمور السجن يقرأ عليها نص الحكم، وكانت تتمتم بعبارات تعلق بها على ما تسمعه، قبل أن تُعدم.
وإضافة إلى ما كتبه محرر صحيفة "الأهرام" للحظة الإعدام خرجت الصحافة لشهرين بزاوية يومية مخصصة للقضية، وتبنت بعض الصحف الموالية للاحتلال رأيا يصف المصريين بالانحطاط الاجتماعي بدليل وقوع مثل هذه الجريمة بينهم، وبالتالي فهم ليسوا مؤهلين لحكم أنفسهم، فيما قالت الصحف المناوئة للاحتلال إن هؤلاء ضحية الظروف القاسية.
(الجزيرة - عبدالله حامد)