"أنا لم أقل هذا الهراء".. خرافات على لسان أينشتاين
في الأربعينيات من القرن الماضي، وبينما هو جالس مع كاتب السيرة الذاتية الخاص به، قال ألبرت أينشتاين: "لم أستطع أن أفهم أبدا لماذا تظل نظرية النسبية، بمفاهيمها المعقدة ومشاكلها البعيدة كل البعد، حتى الآن، عن الحياة العملية، تتلقى -خلال فترة طويلة- رنينا صاخبا، نابضا بالحياة، في أوساط الدوائر العامة، لم أسمع قط إجابة مقنعة حقا عن هذا السؤال"، ثم يتساءل بعجب شديد في حوار مع أحد صحفيي جريدة النيويورك تايمز ذات مرة: "لماذا لا يفهمني أحد، لكن، على الرغم من ذلك، فالجميع يحبني؟!".
كان ذلك عجيبا حقا، فلا أحد يعرف بالضبط سبب شهرة ألبرت أينشتاين الواسعة، وإن كانت هناك بعض التأويلات، لكن في النهاية، فإن مواطنا عاديا لن يهتم بتلك القفزة النوعية الشاهقة في طريقة فهم علم الفيزياء لاصطلاحات مجردة كالزمن والمكان والجاذبية، وبالطبع لن يقوى أحدهم، حتّى إن كان طالب جامعة من قسم الفيزياء، على تحقيق فهم واضح لآليات النظرية النسبية بشقيها، على مستوى أكثر عمقا، إلا مع بعض التمرس.
ومع ذلك، فعندما ظهر ألبرت أينشتاين وزوجته، كضيفين للممثل العالمي تشارلي شابلن، في العرض الأول لفيلم "أضواء المدينة" (City Lights)، في لوس أنجلوس، في عام 1931، اضطر الرفيقان إلى شق طريقهما ببطء شديد خلال الحشود المقبلة عليهما والراغبة في إلقاء التحية، وربما أخذ توقيع ثمين من أشهر عالم على سطح الأرض، حتى إن تشابلن قال لألبرت أينشتاين في ذلك اليوم: "إنهم يهتفون لي لأنهم يفهمونني، ويهتفون لك لأن لا أحد يفهمك".
عشرة علماء فقط!
حتّى بعد وفاة ألبرت أينشتاين، في 18 أبريل/نيسان من عام 1955، تصاعدت شهرة الرجل حتّى أصبح، بهذا الشعر المنكوش، والتعليقات الساخرة الشهيرة، نموذجا للعبقرية والأفكار غير المألوفة. ومع مرور الزمن، وصولا إلى الفترة المعاصرة من تاريخنا، كان أينشتاين قد أصبح أسطورة ضخمة لا تعرف بين سطورها الحقيقي من المزيّف، تحول إلى عبقري فذ مكتمل السحر لا يخطئ أبدا ولا حاجة له في بذل أي جهد للحصول على ما يريد، في الحقيقة لم يحتج ألبرت لتلك المدة بعد وفاته ليكون في تلك الصورة أمام جمهوره، لقد تعامل معه الناس في حياته على أنه شيء متجاوز للطبيعة، حتى إن طفلة في المدرسة كتبت له خطابا ذات مرة تقول فيه: "هل أنت حقيقي؟".
بسبب ذلك كله، كان أينشتاين كذلك أحد أكثر الأشخاص الذين نُسبت لهم، في حياتهم أو حتّى إلى الآن، أقوال أو أفعال لم تحدث قط، خذ مثلا تلك الأخبار التي انتشرت في الوطن العربي، والعالم كله، طوال عقود طويلة، لتقول عن النظرية النسبية إنها من الصعوبة بحيث لم يفهمها إلا عشرة علماء فقط في العالم كله، وأضاف البعض أن أحد هؤلاء كان الفيزيائي المصري الشهير "مصطفى مشرفة"، وفي صورة أخرى من تلك الأخبار، أشار البعض إلى أن آرثر إيدنجتون قد سُئل ذات مرة إن كان هناك ثلاثة فقط يفهمون النظرية النسبية العامة فأجاب: "ومن الثالث؟".
بالطبع، ذلك غير حقيقي، وقد أجاب أينشتاين عن هذا التساؤل في أكثر من مرة، وقال لأحد المحاورين إنه "في كل مرة أذهب فيها إلى أي مكان يسألني أحدهم في هذا الموضوع"، ثم يستكمل: "وهذا سخيف. يمكن لأي شخص لديه تدريب كاف في العلوم أن يفهم النظرية بسهولة، ولا يوجد شيء مدهش أو غامض حول هذا الموضوع، من السهل جدا أن تتدرب عقول الطلبة على هذا النمط من الفيزياء، وهناك الكثير من هذه الأمور في الولايات المتحدة".
وتلك، في الحقيقة، نقطة مهمة ولافتة، فألبرت أينشتاين سوف ينزعج طبعا، ويتهمك بالسخف، حينما تقول له إن عشرة فقط هم من يفهمون نظريته، ذلك لأن الوسط العلمي لا يعمل بطريقة الوسط الأدبي مثلا، بحيث يحتاج الغموض الذي يلف النص إلى تأويل وتكهنات من قِبَل المفسرين، لكن الغموض في البحث العلمي، على العكس، سوف يعني أن تكون نظريتك غير مفهومة، وغير مفهومة تساوي، بدرجة ما، أن تكون غير صحيحة، يجب أن تكون النظرية ممكنة الفهم للمتخصصين، بحيث يمكن تقييمها، وذلك هو ما أثار استياء ألبرت حول هذا الموضوع.
حيث يمكن لأي طالب فيزياء، عبر بذل بعض الجهد في استذكار المساقات المتقدمة، في الفيزياء والرياضيات، أن يتمكن بالفعل من فهم النظرية النسبية بدرجة العمق التي كانت لدى ألبرت أينشتاين وقتها، لكن دعنا هنا نوضح أن النظرية النسبية أصبحت بعد أينشتاين أكثر من مجرد نظرية، فقد أصبحت برنامج بحث واسع يحوي عددا من التخصصات الدقيقة بداخله، بمعنى آخر فإن ما يعرفه الفيزيائيون الآن، وما يدرسونه في برامج الدكتوراه والماجستير، قد تخطى الكثير منه النظرية النسبية، وإن كان يقع ضمنها، لكن هناك الجديد والأكثر تعقيدا في الفيزياء دائما، وإن كانت النسبية لا تزال في المركز من ذلك كله.
في الحقيقة، يلفت الخبر الزائف الأخير النظر إلى فكرة مهمة ستتضح بعد قليل، لكن دعنا قبل ذلك نتعرف إلى إشاعة شهيرة تقول إن ألبرت أينشتاين كان فاشلا في الرياضيات حينما كان طفلا، لكن -على العكس من ذلك- ما نعرفه أن أينشتاين كان طالبا مميزا، في البداية لم يتوقع أي من أساتذته مثلا أن يكون عبقريا، لكن في سن الحادية عشرة، كان يقرأ كتب الفيزياء الجامعية، وفي سن الثالثة عشرة قرر أن إيمانويل كانط هو فيلسوفه المفضل بعد قراءة "نقد العقل المحض"، أما بحلول الخامسة عشرة فقد كان محترفا في التفاضل والتكامل كطالب جامعي.
أنا لم أقل هذا الهراء!
كان ألبرت، بكل وضوح، طالبا نجيبا، كسولا في بعض الأحيان، ولم يلق اهتماما كبيرا بأي شيء آخر غير الرياضيات والفيزياء، لكنه لم يكن، حسب ما نعرف، يواجه أي مشكلة في عملية التعلم ذاتها، أو في بذل الجهد الكبير للوصول إلى النتائج الدراسية المرجوة، لكن الأكثر دعوة للتأمل كان دائما اقتباسات ألبرت أينشتاين، فمثلا يحتوي موقع ويكي الاقتباس على عدد ضخم من اقتباساته مقارنة مثلا بأرسطو أو جاليليو أو إسحاق نيوتن أو تشارلز داروين أو ستيفن هوكينغ، لكن على الرغم من ذلك فإن أشهر اقتباسات ألبرت أينشتاين شهرة ليست صحيحة.
خذ مثلا أحد أشهر أقوال ألبرت أينشتاين انتشارا هنا في الوطن العربي والتي غالبا ما تتخذ طابعا سياسيا، وهي قوله إن "الغباء (الجنون) هو أن تفعل الشيء نفسه مرة بعد مرة ثم تنتظر نتائج مختلفة"، أو قوله إن "أي أحمق يمكن له أن يجعل الأشياء أكبر وأكثر تعقيدا وأكثر عنفا، لكن يتطلب الأمر لمسة من العبقرية -والكثير من الشجاعة- للتحرك في الاتجاه المعاكس"، في الحقيقة لا نجد دلائل، وثائق مكتوبة كحوارات صحافية مثلا، على صحة هذه الاقتباسات، والتي ما زالت إلى الآن تلقى رواجا.
أضف إلى ذلك أن المشكلة، في بعض الأحيان، كانت في تحوير اقتباس خاص بألبرت أينشتاين ليتناسب مع مهمة بعينها، أو ليكون من البساطة بحيث يتداوله الناس بسهولة، خذ مثلا ذلك الاقتباس القائل: "يجب أن يكون كل شيء بسيطا قدر الإمكان، ولكن ليس أبسط من ذلك"، والذي هو، ربما، نسخة مختصرة من جزء من محاضرة كتبها أينشتاين عام 1933 يقول فيها: "لا يمكن أن ننكر أن الهدف الأسمى لكل النظرية هو وضع عناصرها الأساسية غير القابلة للاختزال في أبسط صورة، وأقلها في عدد الكلمات المستخدمة، دون الحاجة إلى التنازل عن التمثيل المناسب لأي من الحقائق".
لكن تلك الحالة من الاختصار والتحوير كانت، في بعض الأحيان، السبب في فهم خاطئ لما يقصده ألبرت أينشتاين من حديثه، هنا دعنا نتطرق إلى أشهر اقتباسات ألبرت أينشتاين القائلة إنه قال في حوار مع نيلز بور ذات مرة أن "الله لا يلعب النرد"، هنا رد بور: "أنت لا تملي على الله ما يفعله"، في الحقيقة لا تمثل هذه كلمات أينشتاين بالضبط، حيث إنها مستمدة من خطاب مكتوب باللغة الألمانية في ديسمبر/كانون الأول 1926 إلى صديقه ماكس بورن، يقول فيه بالضبط: "ميكانيكا الكم تعطي الكثير، لكنها لا تجعلنا أقرب إلى سر "القديم"، أنا -على أي حال- مقتنع بأنه لا يلعب النرد"، لاحظ أن ألبرت أينشتاين، هنا، لا يستخدم كلمة "الله" (Gott) في النسخة الألمانية من الاقتباس، بل يستخدم كلمة "القديم" (Der Alte)، وهو تعبير يدل على درجة من درجات تجسد الإله في الطبيعة.
ينقلنا ذلك إلى خطأ آخر شهير في الفهم، حيث إن الإله عند أينشتاين ليس إلها بالمعنى المفهوم، وربما ليس محركا للمعادلات التي تحكم الكون بقدر ما هو المعادلات نفسها (وجهة نظر واحدية تقول إن الكون والإله هما حقيقة واحدة)، الحُكم، أو قل القانون، الكلاسيكي الصارم الدقيق المحدد كتروس الساعة والقادر، لذلك، على توقع كل شيء مستقبلي واستحضار كل شيء حدث في الماضي، لهذا السبب سوف يعترض ألبرت أينشتاين ويغضب بشدة حينما يقول مبدأ عدم التأكد لفيرنر هايزنبرج إن "عدم اليقين" لا يحدث فقط لنقص في خبراتنا أو أدواتنا، لكنه جزء جوهري من تركيب الكون الأساسي، هنا لا يمكن للإله نفسه -من وجهة نظر ألبرت- أن يكون غير قادر على توقع المستقبل بدقة!
أينشتاين كتجارة
وتنقلنا تلك النقطة بدورها إلى عدة تأويلات مهمة لأسباب هذا الانتشار الكبير للاقتباسات، والأفعال، التي لم تبدر من ألبرت أينشتاين أبدا، أو تلك التي بدرت منه لكن تم تحويرها، فأولها هو الاستخدام للترويج، لمذهب أو قضية أو توجه بعينه، ألبرت أينشتاين هو مركز سلطة عالمي لا يمكن تصور مدى قوته، إذا قال أو فعل شيئا فإن ذلك يعني، بالنسبة إلى عامة الناس، أنه حقيقة مطلقة، لذلك سوف يستخدمه رجال الدين، من كل الديانات تقريبا، على سبيل المثال، لدعم أفكارهم، وسوف يستخدمه النباتيون كذلك للترويج لتوجهاتهم رغم أن ألبرت أينشتاين كان قد امتنع عن أكل اللحوم لسبب طبي.
من جهة أخرى سوف تجد أن بعض الفلاسفة سوف يستخدم شهرة أينشتاين في الترويج للجملة القائلة إن "كل شيء نسبي"، والتي تدعم فلسفات أخلاقية بعينها، رغم أن ذلك، في الحقيقة، يقع ضد ما يقصده أينشتاين في نسبيته، بل وفي حوار له مع "The Saturday Evening Post"، يقول ألبرت أينشتاين معلقا على هذه النقطة تحديدا: "لقد أُسيء فهم ما تعنيه النسبية على نطاق واسع، يلعب الفلاسفة بالكلمات كما يلعب الأطفال بالدُمى. النسبية، كما أراها، تشير إلى أن بعض الحقائق الفيزيائية والميكانيكية التي كان يُنظر إليها على أنها ثابتة، هي نسبية حينما نضع في الاعتبار حقائق فيزيائية وميكانيكية أخرى، النسبية لا تعني أن لدينا الحق في أن نقلب العالم رأسا على عقب بخبث".
أما مخرجو السينما فسيعملون على تصوير العلماء، كلهم، ككائنات غير بشرية، مفرطة العبقرية، تتعامل بشكل غرائبي مع الآخرين، لسرقة الإقبال على أفلامهم، أضف إلى ذلك الاستخدام السياسي لألبرت أينشتاين، خاصة من قِبَل دولة كإسرائيل، لتصوير "جنس" بعينه، يمثله مجموعة من الأفراد المتفقين على مجموعة من الظنون الواهية، على أنه "مميز"، وبالطبع سوف يستخدم مدربو التنمية البشرية اقتباساته غير الصحيحة لكي يروجوا لأحاديث النجاح والطاقة غير المحدودة التي تفتح لك الباب للعبقرية الخالصة.
لكن لتحقيق كل تلك الأهداف كان من الضروري أن تقوم تلك الأطراف، على مدى سنوات طويلة، بالتعظيم من شأن ألبرت أينشتاين وكأنه عبقري فذ جاءته النظرية النسبية "كوحي"، هنا وجدت تلك الفكرة عن العبقرية السحرية قبولا واسعا عند عامة الناس، فالبعض يود أن يتخيل الإبداع منتجا سحريا سرّيا لشخصيات عبقرية ذات طابع خاص، بمعنى آخر، يتصور الناس أن "البعض موهوب، والبعض الآخر غير موهوب"، وطالما أننا لا نمتلك تلك الحالة العقلية الخاصة جدا، فلا حاجة لنا إذن أن نبذل كل الجهد الممكن في المحاولات من أجل الحصول على ما نريد، كان ذلك أن تصبح روائيا أو فيزيائيا أو عازف كمان، بل يمكن فقط أن نستمر في الغرق داخل كسلنا طالما لسنا موهوبين، أليس كذلك؟
لفهم أوضح لتلك النقطة دعنا نتأمل الاقتباس الشهير المنسوب لألبرت أينشتاين، ولكنه لم يقله أبدا، القائل إن "الجميع عبقري، ولكن إذا حكمت على سمكة من خلال قدرتها على تسلق شجرة، فإنها ستعيش حياة كاملة معتقده أنها غبية"، يحاول هذا الاقتباس أن يوجه قارئه، ضمنيا، إلى مجموعة من الأفكار تقول إن الظروف، نظم التعليم ربما، أو النظم السياسية، هي فقط السبب في فشلنا الشخصي، وأنه لا حاجة لنا إذن في البحث عن أسباب خاصة بنا نحن، كالكسل مثلا، أو الخوف من المستقبل، هي ما منعنا عن الإنجاز في حياتنا.
لكن ألبرت أينشتاين يقول في اقتباس لن تراه كثيرا في وسائل التواصل الاجتماعي: "إن الطريقة الوحيدة للهروب من التأثير الفاسد لثناء الآخرين عليك هي الاستمرار في العمل"، هذا هو كلام رجل يعرف جيدا أن العبقرية تكمن بالأساس في بذل الجهد، لكن على العكس من ذلك سوف تجد أن أكثر ما يشتهر عن أينشتاين في مجتمعاتنا هو أنه كان فاشلا دراسيا، أو أن نظريته من التعقد بحيث لا يمكن فهمها، بحيث يكون الأول مبررا للفشل الدراسي، والأخير مبررا للتوقف جانبا والتكاسل عن الاستمرار، فالعباقرة، في رأي هؤلاء، هم مجموعات خاصة من البشر كانوا كذلك من يوم ولادتهم، ولن نكون مثلهم أبدا.
في كتابه "يوميات روائي ناشئ" يقول أمبورتو إيكو الفيلسوف والروائي الإيطالي: "لقد تعلمت أشياء كثيرة وأنا أكتب روايتي الأولى، منها أن الإلهام كلمة سيئة"، ويقصد إيكو هنا أن فكرة "الإلهام" و"الوحي" التي يتحدث عنها البعض هي مجرد لفظة لغرض الاستهلاك، كليشيه مكرر، لكن الحقيقة هي أنه عمل لسنوات طويلة، تصل إلى ثماني سنوات كاملة، في كل رواية من رواياته المهمة، دع أحاديث الأفلام الهوليوودية جانبا، واقتباسات مدربي التنمية البشرية الطاقية، السر -كما يقول إيكو، وأينشتاين، وكل شخص حقق إنتاجا جوهريا في هذا العالم- هو فقط أن تستمر في بذل أكبر قدر ممكن من الجهد حد الملل.
(الجزيرة)