المرجل الأردني الذي يغلي... وربع الساعة الأخير
مستلهما بعضا من القوانين التي تحكم ظواهر الطبيعة والكون، صاغ المفكر الألماني كارل ماركس في القرن التاسع عشر واحدا من أهم قوانين علوم الاجتماع والتاريخ الإنسانيين. والحديث يجري هنا عن قانون التغيرات الكمية والنوعية. ففي قوانين الطبيعة وظواهرها يسود القانون التالي؛ يتشكل مسار تاريخي ما، وتتراكم التحولات والتغيرات ذات الطابع الكمي فيه والتي تبقى مجرد تغيرات في الكم وفي الدرجة إلى أن تتراكم إلى مستوى معين، فلا يعود المجال هنا لاي تراكم كمي، بل يحدث هنا تغير نوعي.
ففي القانون الذي يحكم العلاقة بين شكل الماء وظاهرة الحرارة والاحترار، تتراكم سلسلة من التغيرات الكمية التي تبقى مجرد تغيرات كمية إلى أن يصل التراكم الكمي حدا معينا فيتحول إلى تغير نوعي أي تغير في شكل الماء وقوامها. ففي مسار تسخين المياه ورفع درجة حرارتها، يبقى الفارق بين درجة حرارة 20 أو 30 او 70 او 90 مجرد فوارق كمية، ويبقى شكل الماء هو نفسه، اي الشكل السائل. ولكن مراكمة درجات حرارة أضافية يصل بالماء إلى نقطة لا تعود الماء تحتمل معها مجرد اختلاف في درجة حرارتها، بل تؤدي التغيرات في كمية الحرارة إلى اختلاف نوعي، أي اختلاف في شكل الماء، فيتحول من الشكل السائل إلى الشكل الغازي أي إلى بخار. الفرق بين كل درجات الحرارة من 1 حتى 99 هي مجرد فروق كمية، ولكن الفرق بين كل درجات الحرارة هذه ودرجة المئة، تنتج فارقا نوعيا وكيفيا.
تمثل المشهدية المأزومة والموتورة التي يعيشها الأردنيون في نهاية العام 2021 بدولتهم وبعوامهم ونخبهم نتاجا لمسارات تاريخية كبرى تشكلت في الاقتصاد السياسي والاجتماعي الأردني منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وبقيت هذه المسارات تراكم جبالا من التغيرات في نطاق الكمي والعددي دون السيطرة عليها، بل ودون حتى ملاحظتها ورصدها بشكل كاف، وباتت اللحظة الآن تمثل لحظة الذروة في هذه المسارات الكمية والعددية وبما يشي بحصول تغيرات نوعية وبات استمرار الحال بمثابة ضرب من المحال.
في تسعينيات القرن الماضي تشكلت المسارات الأربعة القاتلة التالية؛ دولة تقرر التخلي عن دورها في تخطيط الاقتصاد بل وإدارته والتحكم فيه إلى نموذج الاقتصاد الذي يديره الأفراد ورجال الأعمال والشركات المحلية والعالمية. في تسعينات القرن الماضي قررت الدولة أن النموذج الاقتصادي ودور الدولة فيه، والذي ساد منذ تأسيس الدولة واعتاد الأردنيون عليه، وحيث الدولة هي المحرك الرئيس للاقتصاد والأعمال والاجتماع، وحيث أكثر من 65 بالمئة من قوة العمل في البلاد توفر الدولة العمل لها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لم يعد صالحا وأن على الأردنيين الانتقال منذ تلك اللحظة إلى انتظار فرص العمل ولقمة الخبز التي سيوفرها منذ اليوم القطاع الخاص.
وفي تسعينات القرن الماضي، تشكل مسار ثان حين قررت الدولة أن إسرائيل لم تعد عدوا وأن السلام معها هو خيار استراتيجي، وأن السلام مع الكيان الصهيوني سوف يجلب الرفاهية والعيش الرغيد للأردنيين، وان السلام مع الكيان سوف يخلق شراكة بين الكيان المتقدم تكنولوجيا وتلك الجيوش من الشباب الأردني المتعلم ومن قوة العمل الأردنية. وقيل يومها، أن السلام مع الكيان سوف يعني تخفيضا كبيرا في المال الذي يدفعه الاقتصاد ليمول الأمن والدفاع في مواجهة الكيان ويما يمكن من تحويل المال الذاهب للأمن والدفاع إلى مجالات التنمية الزراعية والصناعية وبما يحسن في جودة حياة الأردنيين.
وفي محاولتها إقناع الأردنيين بالصلح مع كيان الاحتلال، وبتحول الكيان من صفة العدو إلى صفة الصديق والشريك، استنفرت الدولة الأردنية حينها رجالاتها ليتحدثوا للأردنيين عن "ثمار السلام" حتى كاد الأمر ببعض السياسيين أن يعد كل عائلة بالأردن بحصولها على مليون دولار في حال وقع الأردن معاهد السلام مع الكيان. فالسلام سيجلب الاستثمار والمستثمرين، وسيجلب معه رضى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي وسيفتح الأسواق أمام المنتجات الأردنية التي كانت مغلقة من قبل، وسيوفر فرصا للعمالة الأردنية في مصانع الكيان ومزارعه ومتاجره.
وبالتوازي مع هذين المسارين القاتلين، كان هناك مسار ثالث قاتل لا يقل خطورة عنهما. ففي موازاة التحول في دور الدولة وانسحابها أو سحبها من حياة الأردنيين الاقتصادية والاجتماعية وترك الاقتصاد والاجتماع والأخلاق لما يسمى باليات السوق وحيث لا سوق على النسق الغربي مطلقا، حدث تحول في نظام المعونات والمساعدات الغربية للأردن؛ فبعد أن كانت المساعدات والمعونات تأتي للدولة حصريا وبما يكرس من قوتها وحضورها داخل حياة الأردنيين، باتت المعونات والمساعدات تتجنب الدولة وأجهزتها بتأثير من إيديولوجيا النيوليبرالية التي جاءت بها مارغريت تاتشر ورونالد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي وبقوة دفع من أذرع الكيان لدى الجهات المانحة. فالمعونات لا ينبغي أن تذهب لكيانات دولتية بيروقراطية فاسدة، بل يجب أن تذهب مباشرة لمستحقيها، هكذا سمعناهم يقولون في صحافة الغرب وإعلامه. وأما الجهات التي تستحق المعونات فهي ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني والجمعيات والمنظمات غير الحكومية ليتشكل مع الوقت جيش من هذه المنظمات في الأردن كما في لبنان، وحيث تشير الإحصائيات مثلا إلى نجاح الغرب في تشكيل ما يزيد على الثلاثين الف منظمة غير حكومية في لبنان هي بمثابة جيش محلي داخل الجسد اللبناني صنع وأنتج غربيا.
وأما المسار الخاطئ بل والقاتل الرابع الذي تم تدشينه بدءا من سنوات منتصف التسعينيات فيتعلق بالتعليم ودور الدولة تجاه المدرسة والجامعة. فبعد عقود طويلة من لعب دور القائد في حقل التعليم بمختلف مستوياته وحيث قامت الدولة بإنشاء آلاف المدارس وبتدريب وتأهيل عشرات آلاف الكوادر التدريسية، وبعد مسيرة مظفرة في إنشاء الجامعات في شرق الأردن الذي بقي دون جامعات حتى العام 1962، قررت الدولة في تسعينات القرن الماضي وبصورة فورية الانسحاب من الاستثمار في التعليم، ولم يعد التعليم أولوية إلا بالفدر الذي يرتبط فيه بعلاقات الأردن الخارجية من قبيل ما يسمى ب"مكافحة الإرهاب والتطرف" أو التربية الجندرية أو تخريج أجيال السلام وأشباله. وبعد بناء ما يزيد على العشر جامعات حتى سنوات التسعينيات قررت الدولة، أن التعليم يجب أن يترك للقطاع الخاص، وترك المجال للمال الفردي والخاص بأن ينشأ الجامعات ويمنح الشهادات الجامعية ليتحول التعليم إلى سلعة تخضع لمنطق السوق والربح قلما تعثر على نماذج جيدة منها.
منذ سنوات التسعينات ما فتأت هذه المسارات القاتلة عن مراكمة نتائجها. فالدولة التي لم تعد تدير الاقتصاد وحيث بات الاقتصاد يختزل بالمالية، وبات وزير المالية هو الحاضر الأكبر في حين لم يعد يظهر في الحكومة موقع وزير الاقتصاد. فالدولة لم تعد تخلق فرصا للعمل، وبات من المستحيل ومن شبه النادر أن ترى رأس الدولة وهو يقص شريط الافتتاح لمصنع كبير أو لمشروع وطني استراتيجي يتعلق بالبنية التحتية أو بقطاعات الصناعة الثقيلة او الخفيفة كما اعتاد عليه الأردنيون منذ سنوات الخمسينيات حتى سنوات الثمانينيات. وبنتيجة هذه السياسات الاقتصادية تتكدس سنويا عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل ليصل عددهم إلى اكثر من نصف مليون.
ومنذ سنوات التسعينيات تزداد الأرقام المتعلقة بالجريمة والجنح والعنف، وبات المجتمع يختزن في داخله مستويات غير عادية من العنف الكامن والمتراكم والمستتر والذي يمكن لك إن تلمسه في الشارع والسوبرماركت وأمام الاشارة الضوئية وفي طوابير السيارات اللامتناهية. أجزم أن مقارنة بين مستويات العنف في البلاد مع تلك الموجودة في بلد يزيد تعداد سكانه عن سكان الاردن بتسعة أضعاف كألمانيا، سيكشف عن نتائج تثير الصدمة والرعب، وتبين المستويات غير المسبوقة من العنف التي تضرب المجتمع والبلاد.
ومنذ سنوات التسعينيات باتت هيبة الدولة وهيبة القانون تضعف وتتراكم درجة تجاهل الأردنيين للقانون بل وتحديهم لهم. ففي الشارع كما في الدوائر الحكومية كما في الجامعات لم يعد القانون يخيف تلك النماذج الشيطانية ولم يعد يردع من في داخله شر وعنف وفساد، بل بات القانون يخيف من يحمل في داخله الخير والعلم والضمير. فالقانون لم يعد يخيف ويردع الأشرار بل بات الخيرون والعلماء هم من يشعرون بالخوف من القانون ومن إجراءات القانون والدولة.
ومنذ سنوات التسعينيات باتت العلاقة مع الكيان الاحتلالي وبدلا من أن تكون مصدرا للخير والسلام والرخاء، باتت العلاقة مع الكيان مصدرا للفقر والتوتر والخراب. فبدلا من جبال المال والاستثمار التي بشرنا بها عرابو التطبيع، بات العبء الأمني والدفاعي الأردني هو في أقصى مداه، وبات يستهلك ما يصل إلى نصف ما تنفقه الخزينة العامة وفق أرقام مركز ستوكهولم السويدي للدراسات الدفاعية. وبدلا من أن أي يؤدي السلام المزعوم إلى استجلاب المال الأمريكي والغربي والياباني، بات على الاقتصاد الأردني أن ينفق كثيرا من الموارد على ضبط مصالح الحليف الأمريكي في الإقليم، وبما يفوق كثيرا وبإضعاف، المليار دولار التي يقدمها الأمريكي للأردن تحت عنوان المساعدات.
وفي الخراب الكبير ألذي يعيشه الأردنيون، اجزم أن معاهدة الصلح أسست لكثير من معاول الهدم والخراب الذي نعيشه وسنبقى نعيشه ما بقي الكيان، وما بقيت العلاقة مع الكيان دون تصويب ودون مراجعة. وفي التدليل على الدور التخريبي الذي يلعبه الكيان، لن تكفي مجلدات لوصف وتحليل السياسات الصهيونية التي تعتبر الأردن وفلسطين وسوريا والعراق ومصر بمثابة كيانات معادية لا ينبغي لها أن تنهض، وينبغي لها أن تكون بمثابة كيانات اقتصادية في موقع التابع لاقتصاد الكيان ودولته. يكفي النظر لحال الفلسطينيين تحت حكم السلطة الفلسطينية التي وقعت الصلح مع الكيان، ولكن المؤشرات الاقتصادية فيها تشبه تلك الموجودة في غزة وتلك الموجودة في الأردن وفي مصر.
ومنذ سنوات التسعينات يزداد انفضاض الأردنيين عن دولتهم بعد أن لم تعد الدولة محور حياتهم في الاقتصاد كما في التعليم كما في الأخلاق. وباتت الصورة التي يحملها الأردنيون عن دولتهم مرعبة، وبات من الصعب على وزير أو مسئول حكومي أن يرسم صورة له في أذهان الأردنيين باعتباره بعيدا عن الفساد والعبث المالي الذي يتهم الأردنيون دولتهم به. ويكفي لعمل دراسة سريعة لما ينتجه الأردنيون من تعبيرات وتصورات عن دولتهم، حتى نكتشف حجم الأذى والخراب الذي أصاب الدولة ومشروع الدولة في ذهن الأردنيين وفي مخيلتهم الجمعية.
في مشهدية العنف والفقر واليأس والإحباط وانسداد الأفق التي نعيشها الآن، فلنبحث عن تلك المسارات التي زرعناها وأسسنا لها في تسعينيات القرن الماضي. وفي المشهدية التي نعيشها اليوم باتت المؤشرات كلها هي في حدها الأقصى على المستوى الكمي، ما يعني أن أي زيادة في المؤشرات الكمية سواء في نسب الفقر أو العاطلين عن العمر أو في نسب الفساد أو في نسب الجريمة لن تبقى أبدا في نطاق التحولات الكمية، بل أجزم أنها ستؤدي إلى تحولات نوعية وكيفية في الدولة وفي المجتمع، وستؤدي إلى انقلاب في المشهد كله، وستؤدي إلى انقلاب على المسارات كلها. كل المؤشرات تقول وبأعلى الصوت أننا في بتنا في ربع الساعة الأخير إن استمرت تلك المسارات القاتلة على حالها، وإن لم يحدث قرار استراتيجي بمراجعة تفضي إلى تغييرات بنيوية في المجتمع والدولة والسياسة الخارجية.