الأردن بهمة الحكومات المتعاقبة في مرتبة الدول القامعة

 


 على الصعيد الشخصي لم أستغرب المرتبة التي أصبح يحتلها الأردن في مجال الحريات الأساسية.

مرتبة تخجل الدول ذات الأنظمة البوليسية من توصيفها ووسمها بها، فكيف الحال بدولة مثل الأردن التي ترفع شعارا أطلقه رأس الدولة منذ عقدين من الزمان بأن الحرية سقفها السماء.

كي أكون منصفا في الحديث، أقول بأن هذه المرتبة التي تحمل لقب " دولة قمعية " وهي ثاني أسوأ مرتبة على مقياس الحريات الأساسية حيث لا يفوقها غير مرتبة الدولة المغلقة والتي تعني انعدام الحريات الأساسية فيها مثل كوريا الشمالية وتركمانستان وبعض الدول المتناثرة في العالم.

هذه المرتبة ليست وليدة الحكومة البشرية الحالية، فهي مرتبة نمت وترعرعت في أحضان الحكومات المتعاقبة، والتي كان لكل منها نصيب في أن تتبوأ الأردن هذه المرتبة.

الحقيقة أنه عبر السنوات الماضية لم تتمكن حكومة من التخلص من ذهنية الهاجس العرفي في الإعلام، فالأصل هو عدم الثقة بما يمكن للإعلام تقديمه عن واقع عمل الحكومة، وأن الإعلاميين بحاجة لمن يوجههم ويرعاهم، وأنه ينبغي لهم أن يظلوا تحت الوصاية الأمنية .

ما بين قانون المطبوعات والنشر الذي ناضلنا في تسعينيات القرن الماضي في سبيل تعديله بما يتوائم مع تطور التكنولوجيا الرقمية والاتصالات وعولمة المعلومات وانسيابيتها وطوفان المعرفة الذي يكاد أن يغرق العالم. وبين قانون العقوبات الذي أفرد موادا خاصة لمعاقبة وتجريم التعبير عن الرأي وحريته في حال انطبقت عليه شروط العقوبة.

إلى أن وصلنا عام 2012 إلى وضع قانون منع الجرائم الإلكترونية تماشيا مع التطور التقني المعولم للاتصالات. وهو قانون تم حرفه عن الغايات التي وضع لأجلها بعد أن أصبحت جل القضايا المحالة للإدعاء العام لا تتجاوز حرية الرأي والتعبير ويتم تطبيق المادة ( 11) من القانون عليها. ومع التوسع في تعابير فضفاضة غامضة مثل جملة اغتيال الشخصية، فقد أصبحت المحاكم مكتظة بقضايا كانت تحل بجلسة بين الطرفين المتخاصمين على طاولة وفنجان قهوة، لكنها صارت سيفا مشهرا في وجه حرية الرأي. وتوالت القضايا التي تنتهي بالتعويض المادي الذي وصل في أحايين إلى مئات الالاف من الدنانير.

وتم زيادة القيود والعقوبات في مختلف القوانين التي تتعلق بالحريات الأساسية، وصولا إلى قانون منع الإرهاب الذي أضاف جملة من القيود والعقوبات على الحريات.

ولولا تلك العادة الطيبة التي ما زالت سارية في الأردن والمتمثلة بالتصالح العشائري والشخصي من خلال تدخل البعض لإجراء الصلح، لشاهدنا كثيرا من الإعلاميين على أبواب السفارات هربا من المبالغ المطلوبة منهم في قضايا الذم والقدح والتحقير واغتيال الشخصية وغيرها من التعابير القضائية.

طبعا هنا لا أتحدث عن قضايا شخصية أو تتعلق بذم شخص ما، فهذه يمكن لقانون العقوبات أن يتكفل بها دون الحاجة للجوء إلى أية قوانين أخرى.

ما يلفت النظر أننا في الأردن لا يوجد منطق في كيفية الإحالة للقضاء، وفي كيفية التعامل مع المحالين الذين يتباين الفعل فيما بينهم لدرجة المفارقة الواضحة، كأن يتم توقيف الإعلامي قبل المحاكمة وقبل الإحالة على الإدعاء العام أو أن يتم زجه بين أصحاب السوابق وحجز حريته أو يتم إعادة توقيفه بعد أن يقرر القاضي إخلاء سبيله.
ويرد تساؤل حقيقي هنا، من وكيف يمكن ضبط السوشيال ميديا وما تفيض به من إباحية جنسية وشتائم وردح وفتنة وعنصرية وتحشيد ضد الدولة والحط من شأن المجتمع. ألا ترى الحكومة تلك الصفحات المكتظة بكل ما يندى له جبين الإنسانية. 

فيما المفارقة أن هناك من تتم أو تمت إحالته للقضاء لمجرد رأي أو نشر تعليق يدخل ضمن الحريات الأساسية للتعبير عن الرأي.
إن المرتبة المتدنية للأردن على مقياس الحريات الأساسية جدير بأن يستوقف المعنيين من أجل إعادة النظر في التشوهات المغلفة بالقانون وتعديلها بل وإزالتها تماما، وتحري أن لا يتم الخلط بين حرية التعبير عن الرأي وبين الذم والقدح الشخصي، وأن لا يعتبر نقد أي مسؤول ضمن الذم والتشهير طالما كان في موقع المسؤولية.

حين سألت أحد المعنيين بالجرائم الإلكترونية عن طبيعة ونسبة تنوع القضايا والحالات المحالة إليهم، لم أفاجأ حين قال أن نسبة يعتد بها من الحالات عبارة عن شكاوى تتعلق بمنشور أو تعليق على مواقع التواصل أو رسالة بين اثنين عبر الواتس أب.
إنني ومن باب المزعج الناصح، أحيل الحكومة والمعنيين فيها بأن يبحثوا عن كيفية وقف سيل البذاءات غير الأخلاقية التي تفيض صبحا ومساء بما تدعى اللايفات عبر التيك توك واليوتيوب والفيسبوك وغيرها .
وإذا لم تتوفر البيانات عن هؤلاء فإنني أتكفل بتزويدهم بها حال الطلب.
نحن فعلا آن لنا أن نفكر كيف نعيد للمواطن حرياته الأساسية التي تم تقييدها مع احتياجاته الأساسية، فأصبح رهين المحبسين. محبس الجوع للحرية ولقضاء الحاجات.