شُهداء الوطَن، وأبناء الأصالة الوطنيّة
يفتحونَ صُدورهم للموت، ويُقدِمون عليهِ غير آبهينَ للكيفيّة التي سيموتونَ بها، فيُلاقونهُ ساجدينَ، راكعينَ حينما يكون الموت في سبيلِ الدِّفاع عَن الوطَن..هكذا هي مصائر أبناء الوطَن المُحبّينَ لوطَنهم.
ولأنَّ أرضهم يبّزغ منها التّأريخ، ولأنّ أرضهم رحِم تولَد منهُ جُغرافيّة العالَم ؛ تجدهم جُنودًا لا يتردّدونَ بالدّفاع عن ولو ذرّة مِن ذرّات تُراب الوطَن . فكُلَّما لمَع الخطر في سمائه توالف "نبض قلبه الكليّ الكبير" مع نبض قُلوب أبنائه الذينَ يحملونَ في صدورهم قُلوبًا تستشّعر دفء الوطن..هؤلاء هُم ملائكة الأرض، مَن لا يحنونَ جباههم لأحدٍ ؛ سوى الوطن.
إنَّ جُنود وأبناء الوطن الأُصلاء، الضّاربينَ بعمقِ الأصالة الوطنيّة، لا يموتونَ بسهولة، ولا يموتونَ بأيٍّ مِن مراكِز الوطَن، فهُم دائمًا يموتونَ في أماكنٍ تخلِّدهم، وفي أماكنٍ يكون الموت فيها يحمل رمزيّة وطنيّة تاريخيّة، تخلَّد، ليتوارثها جيلٍ بعد جيل..هؤلاء لا يموتونَ إلّا حيثما يوجَد الشَّرف وحيثما توجَد المهابة . هؤلاء مَن يرفضونَ أن يسّرقهُم الموت دونما أن يحمِلوا بكفوفهم رائحة تُراب الوطَن، ليضعوها على قلوبهم حينما يُكفّنون ؛ ليربّتوا على قلوبهم، التي لَم ولَن تُمُت ما دامَ أنَّه أوتانها تربِطها بالوطَن، أو تربِط الوطن بها، لا خلاف على ذلك ؛ حيث أنّ كُلّ واحدٍ مِنهما يستمدّ حياته مِن الآخر..هؤلاء مَن تعرفهم الأرض، فهُم أهلها وذويها ؛ فالأرض لا تعرف إلّا مَن ولِدوا مِن رحِمها، وتُنكِر كُلّ المارقينَ السّفلَة الأوباش، وأبناء الزّنا، وأحفاد مَن اشتهروا بخسّتهم ودناءتهم..تُنكِرهم ؛ لأنَّهُم تسرَّبوا إليها في لحظة غفلةٍ تاريخيّة.
الخضيرات والمشاقبة، لَم يموتا جراء حادث سير، أو في إحدى القُصور نتيجةَ تعاطيهم جُرعة زائدة، كما أنّهُما لَم يموتا وهُم يتجوّلان في أصقاع عمّان التي رفضتّهُم، كثيرًا، تلكَ الأُم التي لا تعتَرف بأبنائها مِن هذه الفئة، وهي فئةٌ لولاها لما كانَت على ما هي عليهِ اليوم مِن أمنٍ واستقرارٍ داخليّ...الخضيرات والمشاقبة، ماتا وهُم يضعان بعيّنهما السّاهرَة أمنَ وطنٍ تبّلُغ مساحته "89931"، وبالنّسبةِ لهُما، كانَت هذه المساحة تساوي قلبَ كُلّ واحدٍ مِنهُما ؛ إذ أنَّهما تنازلا عن قلبيّهما مُقابل هذه القطّعة التي كانا يحملاها في جيوبِ فلدتيّهما، كما كانَا يحملان أطفالهما حينما كانا يعودانِ لبيّتيّهما.
من أينَ نأتي بالكلامِ الصّادِق، الشّاهِق، السّامِق، العظيم، الشّمسيّ، لنكتُب عنكُم يا أبناءَ وطنيَ المُخلصين، ويا شُهداء الحِفاظَ على وطنٍ يتقاسمهُ عليّة القومِ، وكأنَّهُ آخر ما تركهُ لهُم آباءهم مِن ترَكَة..مِن أينَ نأتي بزادِ الكلامِ وأرض البلادِ جدّباء، بل هي صحراءٌ حرموها مِن الماء، ومِن المؤكّد، بأنّها لَن تعرِف الماء ؛ إن بقيَ يجّثو عليها مَن يتعالونَ على تضاريسها..لذا، هي صحراء، بل بمعنى أدَق، صحّروها بعدَ أن كانَت يانِعة، وخضارها يمتّع النّاظرين، وماؤها يروي العطّشى والحائرينَ، وتُرابها الأحمَر يحتَضن التّاهينَ، الذينَ بلا أوطان ؛ فها هي اليوم، لا ينبت بها إلّا صبّار الكَلام الكاذِب، المُدّقع بالنّفاقِ والتملُّق والتسلّق، الذي يُبدِع حاشيَة "السياسية والإدارة والاقتصاد" ببذرهِ أينما حلّوا وارتحلوا.
لقَد احتضنكُما الأرض يا أبناءنا، وليسَ هُناكَ مَن هو أحقٌّ بكُما ؛ سِواها..لقَد أصابها الظّمأ فقدَّمتُما لها دماءكُما، وأصابتها المخمَصة ؛ فقدَّمتُما لها جسديّكُما، على الرّغم مِن أنّكُما أكثر النّاس علمًا، بتقصيرها تُجاهَ أبناءها، كيفَ لا، وأنتُم مَن كُنتُم تحرسونَ حدودها، في بردٍ قارِص، وجوّ مِن الزمّهرير، فلَم يكُ مُتاحًا لكُم إلّا القليل مِن الحَطب، والأقلّ مِن الفِلداتِ المُمزَّقة، التي كنتُم تستدّفؤونَ بها، والتي كُنتُم تعتبرونها مِن أجلّ وأعظَم ما يُمكِن أن يستدفئ بهِ جسد العسكريّ الأُردنيّ، الذي ما توانى يومًا، عن تقديمِ روحهِ ومالهِ في سبيلِ الدّفاعِ والحِفاظ على وطنٍ لا تتوقّف مُحاولات المارقينَ عن سلبِ إرادتهِ، وجعلهِ، بكُلّ مَن وما فيه، مُرتهنًا لمطامعٍ سياسيّة نتِنة وقذِرة.
إنّ هذا الوطَن بُليَ بعددٍ من السّاسةِ الذين كانوا أقذَر مِن نعلِ إمرأة تجوب شوارع المدينة بحثًا عَن ساحرٍ أو مشعوذٍ، لكنّه، وعلى الرّغم مِن هذا الابتلاء، فقَد منحهُ الله أبناءً مُخلصينَ، يذودونَ عن حماهِ بكُلّ ما أوتوا مِن جسارَة، وبكُلّ ما منحَهم الله مِن قوّة ماديّة، وبكُلّ ما ترسَّخت في آذهانهم الوطنيّة، تلكَ الوطنيّة التي تُشكّل اللِّجان تلوَ اللِّجان لضرّبها وإيقاعها لتكثُر السّكاكين بكبِدها.
وهذا الحال المؤسِف، أي الابتلاء، لَم يقِف حاجزًا أمامَ مَن اعتادوا على تلبيَة نداء الوطَن حينما يُناديهم. فها هو الوطَن، وفي سبيلِ الحِفاظِ على أمنهِ الداخليّ والخارجيّ، يودّع بينَ الفينةِ والأُخرى عددًا مِن شبابهِ، ويُكفّنهُم بسنابلِ القمحِ بعد أن يُغسِّلهُم بدموعهِ التي تُذرَف على مرأى مِن أبنائه الذيَنَ يعرفونَ الكثير عَن طريقة بُكاء وطنهم، وهي طريقةٌ لا يُجيد فهمها المُرتزقة، الخونة، مَن تسرّبوا لهُ في لحظة غفلةٍ تاريخيّة.
ولكّل شهيدٍ خلَّد اسمه فوقَ جبال عمّان السّبعة، ونحتَ وجودهُ على كُلّ قلعةٍ مِن قلاعِ الوطَن، وجعلَ إدارات المتاحِف تتقاتَل على جوارِبه، أقول:
فلتسترح يا سنديانة البِلاد.. فلتأخُذ نفسًا عميقًا مِن الحياة، ولا تتوقَّف عَن مُحادثة الوطن عند كُلّ صلاةٍ وطنيّة يا أيّها المهيب.. أنتَ مَن كانَ جسدكَ مِتراسًا لا يتراخى في حراسةِ تُخومِ الوطنِ المجثوّ على رقبتهِ مِن أبناء الدّاخل، أعِدكَ بأنّ الكُل سيصدَح باسمكَ في كُلّ محفَل، حتى الطُيور المُهاجِرة ستجّعلها تُقرؤكَ السّلامَ في حلِّها وترحالِها...
وأعدكَ بتحقيقٍ قولٍ قالهُ مِن قبلي الكثير مِن مُخلصي هذا..سأقول: " سنواصل حراستكَ في ذاكرة الأجيال ونحرس مكاسب نضالك حتى تشرق الشمس من مغربها" .