التحديات التي تواجه دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم
في مقال سابق ربطنا دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم بفوائد كثيرة. رغم أن الأبحاث المتعلقة بدمج الذكاء الاصطناعي في التعليم ترتبط بالدول المتقدمة بشكل مباشر وعلى نحو محدود الانتشار في الدول النامية.
ومع ذلك فهناك العديد من التحديات التي يواجهها هذا الدمج في النوعين المذكورين من البلدان أعلاه لدعم أنظمة التعليم باستخدام فرص سانحة لتوظيف تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على نحو مفيد. لذا دعونا نسلط الضوء في هذه الجولة من خلال إلقاء نظرة سريعة على هذه التحديات.
مما لا يدع مجالا للشك أن هذا المشروع يتطلب أولا أن تتبنى الجهات المسؤولة عن التعليم قرارًا سياديًّا بخلق سياسة شاملة عنوانها الرئيس " الذكاء الاصطناعي من أجل تنمية تعليمية مرتبطة باقتصاد المعرفة ". والحاجة للقرار السيادي ترتبط بتوفير كافة أشكال الدعم مع ربط القرار برؤية الدول للعقود القادمة، إذ أن هذا التركيب سيحدد شكل ونوعية المتعلمين والكفاءات اللازمة لتجهيزهم ليكونوا أعمدة بارزة في مجتمع الذكاء الاصطناعي. أما إن بقي الأمر مقتصرا على محاولات فردية من هذه الجهة أو تلك، فلن يجدي الأمر نفعا في هذا القطاع.
إن مسألة تطوير سياسة عامة لدمج الذكاء الاصطناعي في التعليم لا زالت تتحسس خطواتها الأولى، لكن وقعها سيشتد أكثر فيما هو قادم لتصبح مخرجاتها مرتبطة بالوظائف في سوق العمل المفتوح عالميا وبشكل " كلي " وأعني الكلمة بحذافيرها، لأنها ستخلق إنسانا متعلما بمواصفات تنافسية عالمية يتمكن من خلالها من اختراق أسواق العمل في أصقاع الأرض لا توقفه حدود ولا تمنعه حواجز، حيث يصبح العالم كله بحاجة إلى خدماته. والعكس بالعكس، فهذا سيرتب مخاطر كبيرة على اقتصادات البلدان التي لا تتبنى سياسة دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم، إذ أن مخرجاتها من خريجي المدارس والجامعات والكليات الجامعية سيجدون أنفسهم خارج الصورة تماما ولا وجود لهم في حقل التنافسية على هذه الوظائف. لذا أقترح على صانع القرار خلق بيئة مبتكرة لتوليد الحلول والمبادئ التوجيهية لدمج فرص الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم.
واللافت في الأمر أن بعض الدول حددت بالفعل موازنات كبيرة لعملية الدمج، ولإنشاء مراكز أبحاث الذكاء الاصطناعي، وتوظيف وإعداد الخبراء والاستثمار في البحث والتدريب المتقدم من خلال إنشاء مراكز أكاديمية للمتميزين في الذكاء الاصطناعي، مع توجيه طاقاتهم وتخصصاتهم بما يناسب إبداعاتهم واحتياجات هذه الدول لخدماتهم بما يدعم الرؤى المستقبلية التي تم إعدادها مسبقا. ولنا في ستغافورة وألمانيا وكوريا الجنوبية نماذج حية على تأسيس شراكات بين قطاعات الصناعة والأوساط الأكاديمية لمشاركة الموارد المادية ، حيث ستعمل الشراكات بين الجامعات والمعاهد والمدارس البحثية على تعزيز البحث التعاوني والشراكات داخل القطاع وتعزيز الشراكات الأكاديمية والصناعية.
على الجانب الآخر يبرز موضوع الفرص المتساوية والمنصفة في دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم، إذ أن افتقار الدول لسياسة شاملة تضمن مشاركة جميع الطلبة قد يؤدي إلى حدوث ما يسمى " بالفجوة الرقمية " وهذا سيؤدي إلى خلق بيئة من عدم الاتزان مع من تم حرمانهم من التعليم المدعوم بالذكاء الاصطناعي.
ومن الجدير ذكره أن هذه الفجوة الرقمية ما هي إلا نوع جديد من أنواع الانقسام بين الطلبة حيث تتكون فجوة في استخدام المعرفة القائمة على البيانات المؤهِّلة لاتخاذ القرارات الذكية في حياتهم.
لذا فإنني أنصح صانعي السياسات التعليمية بمراعاة العدالة والشمول كقيمٍ أساسية عند تصميمها مع ضرورة التنبه إلى الحاجة الملحة أثناء تجهيز البنية التحتية في البلدان النامية، والبحث في الدروس المستفادة من التجارب السابقة للدول فيما يتعلق بالحقوق الرقمية.
إن العدالة والمساواة في الفرص لجميع المتعلمين في مجتمع يعتمد على دمج الذكاء الاصناعي في التعليم من شأنهما سد الفجوة التعليمية بين الطلاب الأغنياء والفقراء اقتصاديا وسد الفجوات في فرص التعلم والعمل بين الجنسين.
أمشي على رؤوس أفكاري لأقول: أنه لا بدَّ من إعداد المعلمين والقادة لتعليم مدعوم بالذكاء الاصطناعي، إذ أن من الأهمية بمكان معالجة المشكلات الحالية التي يواجهها المعلمون وقادة المدارس في المجالات الإبداعية والاجتماعية والاقتصادية فهم روّادنا وزادنا وزوّادنا ورأس الحربة في نهضة التعليم.
وفي هذا الموضوع تحديدًا أشدَّد على أهمية تمكين المعلمين ليقودوا تصنيع البرامج التي تعمل بالذكاء الاصطناعي في التعليم كدعامة صلبة واسعة النطاق من خلال تدريبهم على سياسات واضحة لدعم جهود صناعة تكنولوجيا التعليم لتعزيز روح الابتكار وبثَّها في نفوس الطلبة.
ويجب على من يقوم بصناعة هذه السياسات التعليمية أن يفكر جدّيا في ترسيخ فهم واضح لكيفية قيام الأنظمة الممكَّنة بالذكاء الاصطناعي في تسهيل التعلم لإصدار أحكام قيِّمة. وهذا يتضمن التدريب على المهارات البحثية وتحليل البيانات لتفسير البيانات المقدمة من الأنظمة التي تدعم الذكاء الاصطناعي، واتقان كفاءات إدارية جديدة لإدارة موارد (رأس المال البشري) والذكاء الاصطناعي المتاحة لهم بما ينعكس على حياة الإنسان من خلال الاستفادة من تولي الذكاء الاصطناعي للمهام المتكررة والتي قد تساعد المتعلمين على اكتساب مهارات وكفاءات جديدة لا يمكن استبدالها بالآلات.
ولضمان الاستمرار والثبات على نهج واضح فلا بديل عن تطوير أنظمة بيانات عالية الجودة وشاملة، إذ أن ما نمتلكه من بيانات لا تعدو أن تكون محدودة ومتفرقة وموزعة بشكل غير متساوي. فصوت العقل يقول أن نتائج التعلم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بهذا النهج حتى لو كانت الغاية متمثلة بتعديل الأداء الأكاديمي فقط.
وأرى أن من الواجب أن ألفت الانتباه إلى أن هناك عوامل وأركان دينية ومجتمعية وأخلاقية يجب معالجتها ومراعاة عدم المساس بها أثناء تطبيق الذكاء الاصطناعي، خصوصا مع تطور التكنولوجيا بسرعة وما هو مستحيل اليوم يمكن أن يصبح ممكنًا غدًا. لذا كان لا بدّ من مراعاة خصوصيات العوامل المذكورة أعلاه في استخدام البيانات وضمان حماية تفضيلات الخصوصية الفردية ومعلومات التعريف الشخصية.
في النهاية أقول: أن شركات القطاع الخاص وعلى رأسهم عمالقة التكنولوجيا يتصدرون مبادرات الذكاء الاصطناعي في معظم البلدان مثل الولايات المتحدة والصين، بينما تلعب الشركات الصاعدة في مجال التكنولوجيا أيضًا دورًا مهمًا في تسريع تبني الذكاء الاصطناعي في التعليم. وكدليل جليِّ على هذا تمتلك العديد من البلدان استراتيجيات محلية شاملة للذكاء الاصطناعي يكون التعليم فيها عنصرًا محوريا، بينما في البلدان النامية لا زالت المناقشات وعمليات التبني محدودة وقاصرة.
إن الموضوع جدُّ حسّاس، لذا ينبغي أن يصبح اعتماد الذكاء الاصطناعي في التعليم عملية منتظمة ومستمرة وممنهجة في ظل انتشار التكنولوجيا والفضاء المفتوح، وإلا فإن بعض الأمم لن تجد نفسها متأخرة عن الركب فقط، لا بل لم يعد لها حتى مكان على خط سيرهذا الركب.
وأعتقد جازما أن أيام دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم قد بدأت بالفعل وفي حلول العام 2030 سيخسر الملايين وظائفهم إما لاختفائها بسبب الذكاء الاصطناعي أو لعدم تجهيزهم لهذا اليوم مسبقا، فهل سنبدأ للحاق بالركب ؟ أم ماذا؟.