عدنان أبو عودة و الأخطاء الكبرى في الصراع العربي الصهيوني

 

 في محاضرة للمفكر السياسي العربي عدنان أبو عودة في عمان يوم 3.4.2019 تحدث فيها عن "الأخطاء الكبرى" التي ارتكبها العرب في الصراع مع الصهيونية العالمية، تطرق إلى دراسة أجراها عام 1979 عن جدلية العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر أو المستوطِن والمستوطَن في العصور الوسطى والحديثة، وضرب مثالين عن استيطان العرب في الأندلس في الفترة 711-1492 والفرنجة في بلاد الشام في الفترة 1096-1291، مثلما ساق أمثلة عن الاستيطان الأوروبي في الأميركيتين وفي أفريقيا وفي استراليا ونيوزيلاند، حيث استنتج أن العوامل التي تقرر مصير الاستيطان هي عدد المستوطَن نسبة إلى المستوطِن أو ما أسماه العامل الثابت الذي يحافظ على التماسك الثقافي، والعامل الآخر هو المتغير الذي يرتكز على التفوق بالقوة والسلاح حيث نجح الأوروبيون في الأميركيتين وأستراليا ونيوزيلاند لكنهم فشلوا في افريقيا، فالنجاح والفشل قرره في الحالتين العامل الثابت رغم حضور العامل المتغير بقوة في الحالتين. وأخيراً تطرق أبو عودة إلى عامل متغير آخر ينبثق من العامل الثاني وهو عامل العلم والتكنولوجيا التي تركز عليه الصهيونية العالمية لخلق حالة من التوازن الإستراتيجي مقابل عامل الثابت العددي التي تعي تماماً أنه سيظل إلى جانب العرب.
الحقيقة الجلية أن أوروبا وإمتدادتها الجغرافية في أنحاء العالم وهيمنتها على الحضارة الإنسانية بدأت مع عصر النهضة مع سقوط القسطنطينية عام 1453 والثورة العلمية الكبرى في الفترة 1543-1687 والثورات الصناعية الثلاث المتتالية إبتداءً من عام 1750 ولغاية بدايات القرن الحادي والعشرين. ما كان ذلك ليحدث دونما اشتباك مجموعة من الأسباب كان أهمها الإنعناق من ربقة الكنيسة وتغول الدين على العقل في العصور المظلمة. تزامن ذلك مع سيطرة الفكر النصي على العقل العربي وهيمنة الموروث التراثي الممزوج بالأسطورة والخرافة على العلم الذي حث عليه القرآن في كل كلمة وسورة، ما أدى إلى تخلي الأمة عن أحد أعمدة الدين القائم على التفكر والتدبر والبحث عن الخالق وآياته في الآفاق والأنفس والحياة بمجملها. أدى ذلك إلى خروج العرب من التاريخ بعد أن حققوا فتوحات علمية أشرقت بها عصور الظلام الذي خيم على الإنسان، وبذلك طويت صفحة الإسهام في قصة الحضارة والمشاركة في مسيرة البشرية إذ تكاد تخلو كتب التاريخ من أي إنجاز حقيقي يذكر للعرب منذ تلك اللحظة التاريخية لسقوط القسطنطينية والأندلس، فالأولى أدت إلى بزوغ شمس الغرب والثانية إلى أفول نجم العرب وبذلك دخولهم في عصور الظلمة حينما دخل العالم في آفاق التقدم والحرية والإزدهار.
تمكن اليهود في ظل الحضارة العربية الإسلامية من الإفادة من البيئة الفكرية والعلمية التى تميزت بالخصوبة والحيوية والتسامح الديني الذي تجلى في قول الرسول الأعظم: "من ظلم معاهداً أو كلّفه فوق طاقته فأنا حجيجه"، إضافة إلى مجموعة كبيرة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وعاشوا باعتبارهم رعايا الدولة وانتشرت مراكز الفكر اليهودي في المدن الكبرى وتجسد تأثير العرب على الفكر والشعر اليهودي وإشتهر مجموعة من العلماء في ظل الحضارة العربية الإسلامية من مثل الفيلسوف والفلكي وطبيب صلاح الدين الأيوبي موسى بن ميمون وطبيب المنصور جيوَرجيس بن بختيشوع والفيلسوف سعيد الفيومي (سعديا) وعالم الرياضات والفلك سهل بن بشر وكوهين العطار وعالم في الرياضيات والطبيب شموائيل بن يهوذا بن آبونحيث والفلكي ما شاء الله أبن أثرى اليهودي والمؤرخ إبراهيم بن داود والحاخام عانان بن داود وأخيه حنانيا وحركة "القرائين في زمن أبي جعفر المنصور، وغيرها من الأمثلة كثير.
كذلك تمكن اليهود في التكامل مع المجتمعات الأوروبية الحديثة في ظل هيمنة الحضارة الغربية في الوقت الذي احتفظوا فيه بمعتقداتهم وشخصيتهم الدينية وخضعوا لسلطة الدولة وشاركوا في بناءها وأصبحوا جزءً منها وساهموا بإنجازات علمية عظيمة وأشتهر عدد ضخم منهم إبتداءً بألبرت أينشتاين وسيغموند فرويد وكارل ماركس وروبرت أوبنهايمر وروزاليند فرانكلين وريتشارد فاينمان ونيلس بور وميلتون فريدمان وجرتي كوري، وغيرهم الكثير من العلماء اليهود الذين حصلوا على جائزة نوبل منذ انطلاقها عام 1901 ولغاية العام الماضي إذ حصل 203 عالم يهودي عليها من أصل 904، أي ما يمثل 22% ما يتجاوز نسبة اليهود في العالم التي لا تتعدى 0.2%.
ومن الأمثلة الجلية الأخرى على تأثير اليهود في الحضارة الغربية تأثيرهم في مجالات علمية متعددة أهمها تكنولوجيا المعلومات التي تشكل حجر الأساس في الثورة الصناعية الرابعة إذ أسسوا أو يملكون جزئياً أو كلياً أو يديرون أكثر من مائة شركة عملاقة في هذا السوق الحيوي، منهم مارك زوكربيرج مؤسس فيسبوك وسيرجي برين مؤسس جوجل وجان كوم مؤسس واتساب وأندرو غروف الرئيس التنفيذي السابق لإنتل وصفرا كاتز الرئيس التنفيذي لأوراكل كوربوريشن وساندي ليرنر المؤسس المشارك لسيسكو وسوزان وجيكي المدير التنفيذي لموقع يوتيوب وتالمون ماركو مؤسس فايبر وتيري سيميل الرئيس التنفيذي لياهو وديفين وينيج الرئيس التنفيذي لأي بي ودان شولمان الرئيس التنفيذي لبي بال وتشارلي شريم نائب رئيس مجلس إدارة مؤسسة بيتكوين وستيف كيرش مؤسس أدوبي فريم ميكر وإدوين لاند مؤسس بولارويد وروب جليزر مؤسس ريل بلياير وبينيت غرينسبان مؤسس شركة شجرة عائلة الحمض النووي وشاي أغاسي رائد الطاقة البديلة المتجددة.
كما يعتبر اليهود رواداً في التكنولوجيات التي تعتمدها حالياً الثورة الصناعية الرابعة، منها على سبيل المثال الطائرات بدون طيار حيث بنى الإسرائيلي أبراهام كاريم النموذج الأولي لطائرة البريديتور الحديثة الأكثر شهرة في جنوب كاليفورنيا عام 1980، حيث استخدمت في حرب البلقان لجمع المعلومات عن الدفاعات الجوية الصربية ثم تحولت إلى أداة قتل عندما زودت بالصواريخ بعد شن حملة الناتو على كوسوفو عام 1999، وأصبحت اسرائيل أكبر مصدر لها حالياً. كما طور سكوت كرومب عام 1988 تقنية النمذجة عبر الترسيب والصهر لسحب البلاستيك في الطابعات ثلاثية الأبعاد وأسس شركه ستراتاسيس العملاقة في اسرائيل عام 1992 لتصبح من الدول المتقدمة في هذه الصناعة الوليدة. كما تعتبر إسرائيل رائدة في تكنولوجيا النانو إذ كان اليهودي ريتشارد فيليبس فاينمان أول من تنبأ بها وأرسىى قواعدها عام 1959 وقام 1995 باحث إسرائيلي بتقديم ما لا يقل عن 1590 طلباً لتسجيل براءات اختراع أقر منها 769 طلباً ونشروا 12392 بحثاً وأنجزوا 129 مشروعاً ناجحاً ومنها إنشاء شركات نانوتكنولوجي ناشئة، لغاية عام 2016. ما ذلك إلا جزء يسير من التقدم العلمي والتكنولوجي الذي تحققه إسرائيل في عناصر الثورة الصناعية الرابعة الأخرى من مثل الذكاء الإصطناعي وإنترنت الأشياء والحوسبة الكمية والسحابية والبيانات الضخمة والجينوم البشري والطاقة المتجددة حيث تتصدر العالم أجمع في مؤشرين أساسيين للبحث العلمي، أولهما حجم الإنفاق مقارنة بالدخل القومي حيث يصل إلى 4.3%، وثانيهما عدد الباحثين بالنسبة للسكان حيث يبلغ 8300 باحث لكل مليون نسمة.
في ضوء هذه المعطيات، نعود إلى التحليل الذي طرحه المفكر عدنان أبو عودة حول العاملين اللذين سيقرران مآل صراع العربي مع الصهيونية العالمية لنصل إلى نتيجة حتمية بأن نجاح إسرائيل بتحويل العامل المتغير المتمثل بالقوة والسلاح والعلم والتكنولوجيا ليتغلب على العامل الثابت الذي تجسده الكثرة العددية ما هو إلا مسألة وقت ليس ببعيد إذا ما بقيت الدول العربية تقف متفرجة على هذا المشهد المأساوي. وذاك ما يثبته التاريخ ويتجسد بمقولة عميد الأدب العربي: ويل لطالب العلم إن رضي عن نفسه، إذ نحتاجه مثلما الماء والهواء، ونضيف لذلك: نحتاج العلم للبقاء مستوطِنين لا مستوطَنين، جميعاً، على ضفاف نهر الرماد من المحيط إلى الخليج.