مجلس الأمن لا يملِك من الأمر شيئا
دُرّستُ في مساقِ القانون الدَّولي، أنَّ القَرن العشرين قَد تميَّز عَن غيرهِ مِن القُرون التي سبقتهُ، بأمرين، وهُما:
- ظُهور المُنظمات الدَّوليّة، الحكوميّة وغير الحُكوميّة.
- تحريمِ استخدامِ القُوّة في العلاقات الدوليّة.
لكن، هذا ما لَم يُلمَس على أرضِ الواقع، وما لَم يشعُر بهِ شُعوب العالَم التي دائمًا ما تُقدَّم كقرابين لحُكّامها وأطماعهم. فبقيَ هذا التَّميُّز عبارة عن إنشاء يُحفَظ في بطونِ المواثيق الدَّوليّة، التي توضَع على رفوفٍ تكادُ تأكلها أغبِرة الحُروب والصِّراعات التي ولِدَت في الرُّبع الأوَّل مِن القَرن الماضي، وما زالَت حتى هذه اللَّحظة، على الرُّغم مِن بعض التغييرات التي لا تخرُج عن سياق التغييرات الشكليّة وليسَت الجوهريّة، وكانَ ذلك نتيجةَ صراعات الدُّول الكُبرى على القيادة العالميّة، والتربُّع على عرش العالَم الذي ما عرفَ الاستقرار يومًا.
لقَد أخفقَ مؤتمَر لاهاي الدَّولي بتحقيقِ السّلام العالميّ، وكانَ هذا الإخفاق، فُرصة جيّدة، استغلَّتها الدّول الكُبرى . حيثُ سارَعت هذه الدُّول التي تحِمل زُمرةَ دمٍ مِن نوع " استعمار بلَص" إلى استعمارِ الدُّول ذات "الجُغرافيا السياسيّة" المُهمّة، التي ستؤمِّن لها مشاريعها الاستعماريّة على المديين "المتوسّط" و "البَعيد" ومِن ثمَّ أتاحَ لها هذا الاستعمار فرض سيطرتها ونفوذها على الثروات الأوليّة للدُّول المُستعمَرة . كما وأنَّ هذا الاستعمار كانَ سببًا في نُشوبِ الحرب العالميّة الأولى، التي عُقِد بعد انتهائها "مؤتمَر باريس" الذي فُرِضَ فيه خمس مُعاهدات صُلح على الدُّول المُنهزِمة، كما وتَبعهُ اتفاقٌ دوليّ توصَّل إلى إنشاء منظمةٍ دوليّة ذات طابعٍ عالميّ، سُمّيت ب"عُصبَة الأُمم".
ولَكن، حتى عُصبة الأَمم هذه، والتي كانَ مِن أهمّ وأسمى اختصاصاتها ؛ النَّظر في المُنازعات الدوليّة التي تُهدِّد السِّلم والأمن الدوليّين، قَد فشِلت باختِصاصها، ولَم تتمكَّن مِن الحِفاظ على العالَم بجُّلّ مواطنيه ؛ حيثُ قامَت الحرب العالميّة الثانية التي راحَ ضحيَّتها ملايين مِن الأرواح البشريّة، وكاَنت، أي الحَرب، سببًا باندثارِ دُول عديدة وظهور دول جديدة، كما كانَت بداية تحالُفاتٍ عالميّة، تمخَّض عنها إبرام ما عُرفَ ب"ميثاق الأُمم المُتَحدة، وكان هذا الميثاق حُقبة عالميّة جديدة، وكانَ بادرة أملٍ عظيمة، تجمِّع كُلّ دول العالَم تحتَ مِظلَّةٍ واحدة، ألا وهي مِظلَّة "الأُمم المُتَحدة" التي ثبَّتت أقدامها بعدَ أن فشِلَت "عُصبة الأُمم " بالقيامِ بهماها، وكانَ هذا الفشَل الشّاهِد الأبرَز للحُكمِ عليها بالموَت.
معايير أُمميّة مُزدَوجة..
إنّ هيئة الأُمم المُتحِدة، لَم تحتَرم القانون الدَّولي الذي أوجدَها، ولَم تقُم بأيٍّ مِن الواجبات الموكَّلة إليها بالشّكلِ الصحيح. فها هي مُنذ أن حصلَت على شهادَة ميلاد وحتّى هذه اللّحظة التي بلغَ عُمرها فيها ٧٧ سنة، لم نرَ في يومٍ مِن الأيَّام بأنَّها كانَت قادِرة على اتّخاذ قرارات تصبُّ في صالحِ العالَم على حسابِ صاحب القرار فيها، أي الدَّولة/الدُّول المُسيطِرة عليها، ويسيد ويميد بينَ أروقتها . فمِن الاحتلال الصهيونيّ للأراضي الفلسطينيّة ومن ثمّ إلى الأزمة الكوبيّة-الأميركيّة مرورًا بكُلٍّ مِن الحرب الأميركيّة- الفيتناميّة، والغزو الأميركيّ للعِراق، وليسَ انتهاءً بالحَرب القائمة، الآن، بينَ روسيا وأوكرانيا، ونحنُ لا نرى الأُمناء العاميينَ لها، إلّا يبرعونَ بإعلاءِ أصواتهم، ولكن، هذه الأصوات تتجاوز حُدود الشّجبِ والاستنكار، وإن تجاوزت فلن تتمكَّن إلّا مِن القَفز على حواجِز الإدانة.
وعلى الرَّغم مِن أنَّ ميثاق الأُمم المُتّحِدة ينصّ على أنّ الدُّول مُتساوية فيما بينها مِن حيث السيادة، إلّا أنَّ هذا لا يعني أنَّ هناكَ دول لا تملِك التّأثير على غيرها . فعلى سبيلِ المِثال "الأعضاء الدّائمينَ في مجلِس الأمِن لهُم القُدرَة دون غيرهم على اتّخاذ قرارات بالتدخُّل في الشؤون الداخليّة لأيّ دولةٍ كانت، وبصرفِ النَّظر عَن دوافع هذا التدّخل، إن كانت دوافع ديمقراطيّة أم دوافع إنسانيّة".* إنّ هذه الفقرة المنقولة بتصرُّف، هي مَن دفعتني إلى كِتابة هذا المقال فضلًا عن أن فِكرة الكِتابة جاءتني وأنا أُتابِع مسرحيّة، عفوًا، جلسَة مجلِس الأَمن التي يُراد منها "إدانَة العدوان الروسيّ" على حدّ تعبير مَن يحملنَ القَلم (الولايات المتحدة وألبانيا) .
والحقيقة التي تُثير الضَّحك، مِن خلال جعلها المعايير المُزدوجة تحلِّق في الفضاء الدّولي، أقولها هُنا : فاستنادًا على قُدرَة عضو مجلِس الأمن، الدّائم، بالتدخُّل بالشؤون الداخليّة للدُّول، فإنَّنى أرى بأنَّ هيئة الأَمم المُتَّحدة، التي تفتَقد للسُلطة التشريعيّة والتنفيذيّة، تأكُل نفسها بنفسِها، وهذا واضحٌ للجميع، مِن خلال قيام مجلِس الأمِن بمُناقَشة قرارٍ ضدّ دولةٍ دائمة العُضويّة في المجلِس، تملِك حقَّ النَّقِض "الفيتو" على قرارات مجلِس الأمِن.
وبعيدًا عن رَفض (الهند والصّين والإمارات) التَّصويت على هذا القَرار، وعدم المُشارَكة بهذه المسرحيَّة الهزليّة، فكانَ مِن اللّازم على أعضاء هيئة الأُمم المُتحدة، إن كانوا يريدونَ الحِفاظ على الأمن والسّلم العالميين، أن يَمنعوا روسيا مِن التَّصويت، وأن تُخرَج خارِج حسابات الهيئة. لكن، هذا ما لَم ولَن يتِم . فكيفَ لدولةٍ تُعامَل على أساس أنَّها ترتَكِب جرائم حَرب، يكون لها حقّ التَّصويت على القَرار الذي يُدينها أصلًا، والذي سيُتصّدَر مِن خلالهِ مُحاكمة دوليّة على هذه الدّولة، أو على الأقل، يوقَع عليها عُقوبات، أيًّا كانَت شكِل هذه العُقوبات.
وفي ذاتِ السّياق، أي سياق إثارَة الضَّحِك، تحتَ حُجَّة أنّ أميركا غزَت العِراق "منعًا لانتشارِ الأسلِحة النوويّة" وكانَ بتفعيلِ مادّةٍ مِن موادِ ميثاقِ الأُمم المُتحِدة، فإنَّ البَعض يُسمّي ما تقوم بهِ روسيا في أوكرانيا "Russian invasion " ويحسبهُ أمرًا مُختَلفًا عمّا قامَت به أميركا في العِراق، والذي سُمّيَ ب " USA libration " .
وهذا يُحتّم علينا القول، بكُلّ حيادٍ وتجرٌّد، بأنّهُ حتّى وإن كانَ هُناك تبايُن في القوى ما بينَ الولايات المُتَّحدة وروسيا، واختَلف التّسميات بينَ ما تقوم بهِ الولايات المُتحدة وما تقوم به روسيا، إلّا أنَّ هذا لا يعني أنّ هُناك اختلاف في الصلاحيّات بينَ الدولتين داخل أروقة هيئة الأمم المُتحدة. فروسيا لا تختَلف عن الولايات المُتَحِدة داخلَ أروِقة الهيئة، والدّليل على ذلك، بأنَّها تستَخدم "الفيتو" التي استخدمتهُ أميركا إبان غزوها للعِراق.