اسرائيل في عيون الأردنيين؛ درس في سلامة نظر الأردنيين وحَوَل ساستهم وسورياليتهم



في أحدث استطلاع نفذه مركز الدراسات الإستراتجية في الجامعة الأردنية، كانت موضوعة قضايا الشرق الأوسط وعلاقات الأردن الخارجية وتحديدا علاقات الأردن بإسرائيل وبالولايات المتحدة في صلب الاهتمامات البحثية للمركز. وكانت نتائج الدراسة التي قام بها المركز لافتة، وهي نتائج إستراتيجية بامتياز رغم أن الصدى الإعلامي للدراسة وأهميتها، وأهمية ما خلصت إليه، لم يكن بحجم أهمية الدراسة التي يقول المركز أنه يحرص على أعلى درجات الصرامة العلمية عند تنفيذها.

تقول نتائج الدراسة أن الغالبية العظمى من الأردنيين ما زالوا يرون في القضية الفلسطينية بمثابة المشكلة السياسية التي يواجهها الشرق الأوسط وبنسبة طاغية تصل الى حوالي الثمانين بالمائة من الأردنيين، كما تخلص الدراسة في تحديدها لهوية التهديد الذي يشخصه الأردنيون، إلى أن الكيان الصهيوني كان هو التهديد الأكبر على العالم العربي، وان هذا الكيان هو الجهة الأكثر تهديدا للأمن الوطني الأردني، كما ترى غالبية الأردنيين أن الكيان الصهيوني هو المصدر الرئيس لعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط قاطبة.

بداية، أسجل للزملاء في مركز الدراسات الإستراتيجية تجشمهم عناء هذا الجهد، كما أسجل لهم امتلاك شجاعة تناول هذا النمط من الدراسات والاستطلاعات التي أجزم أنها لن تسر الكيان، كما أنها لن تنزل بردا وسلاما على صانعي القرار وعلى خبراء السياسة والأمن وخبراء الإعلام والميديا في الكيان الصهيوني وفي الولايات المتحدة، بل أجزم أنها ستشكل صدمة لهم. وبالتأكيد، فإن مبعث الصدمة هو أن الإستراتيجية الأمريكية والصهيونية تقوم في السياسة كما في لاقتصاد والإعلام والدعاية على تكريس ثقافة التطبيع مع الكيان، وعلى التلاعب الإعلامي والسياسي من أجل تغيير قائمة الأعداء والأصدقاء بحيث يكون الكيان هو من يحتكر صورة الصديق المتحضر والديمقراطي في حين أن العدو للأردنيين هو أحد الأشقاء أو أحد الجيران في الإقليم.

وللتدليل على حجم الاستثمار الأمريكي والصهيوني في التلاعب بالمخيلة الجمعية للشعوب العربية من اجل إنتاج صورة العدو والحليف للكيان مقابل إنتاج صورة العدو للشقيق وللجار في المنطقة، سوف أشير في هذا المقام إلى الشهادة التي قدمها السفير والسياسي الأمريكي جيفري فيلتمان أمام الكونغرس وحيث اعترف فيها، إن الإدارة الأمريكية أنفقت وفي بضع سنوات مبلغ خمس مئة مليون دولار على أنشطة إعلامية وأنشطة لمنظمات غير حكومية من أجل تشويه سمعة بعض قوى المقاومة في المنطقة، ومن اجل تسعير الفتنة السنية الشيعية بحيث يرى السني في الشيعي عدوا له، ويرى الشيعي في شقيقه السني عدوا له.

في القراءة النوعية للأرقام التي تقدمها دراسة مركز الدراسات الإستراتيجية ينبغي التوقف كثيرا عند هذه الافتراق بل القطيعة ما بين الأردنيين وسياسييهم، وما بين واقع الأردنيين الموضوعي وما بين السياسات غير الموضوعية وغير العلمية واستطرادا السوريالية التي يتم تبنيها من قبل دولتهم. ففي حين أسجل وبكل فخر وتقدير لهذا الشعب أنه وبرغم كل هذه الضخ السياسي والإعلامي، ورغم كل محاولات التركيع الاقتصادي والتجهيل الثقافي التي تهدف بالدرجة الأولى لإضاعة البوصلة ولإعادة صياغة قائمة الأصدقاء والأعداء في مخيلة الأردنيين الجمعية، فان الأردنيين شأنهم كشأن إخوانهم في مصر وسوريا ولبنان وفلسطين وتونس والجزائر وغيرها، ما زالوا يرون في الكيان مصدر التهديد الوجودي ليس على بلدهم فحسب ولكن على العالم العربي كله. قراءة الأردنيين بمثقفيهم وبإنسانهم العادي تمكنت وبرغم كل هذا الدخان المتصاعد من أجهزة الضخ الإعلامي من أن تقشع العدو، وأن تشير إلى الكيان بصفته العدو وبصفته التهديد الأول لأمن الأردنيين ووطنهم.

وأما ما يثير الحزن والغضب في النفس، فهو ذلك الفراق أو القطيعة ما بين تشخيص العامة للعدو، وما بين تشخيص خاصة السياسة للعدو. كما أن قدرا كبيرا من الشعور بالغرابة هو تلك السوريالية التي يتبناها صانع القرار في رسم السياسات واستنباط الاجراءات التي يتم بمقتضاها التعاطي مع العدو لاحتواء شره وعدوانيته، وتلك السياسات مع الصديق والجار والشقيق من أجل استجلاب الفائدة والخير منه.

في عالم اليوم، تنشغل كل دولة وبكل مؤسساتها في تحديد المخاطر والتهديدات وتشخيصها على المدى القريب والمتوسط والبعيد، وتنخرط النخب ومراكز الأبحاث ومعاهد الدراسات الأمنية، كما مراكز استطلاعات الرأي في تشخيص الأعداء الظاهرين والمحتملين والكامنين. وبعد أن يتم التشخيص العلمي الدقيق، للأخطار وللأعداء تقوم مؤسسات الدولة بعكس هذه القائمة في السياسات والبرامج والإنفاق وفي الميزانية العامة. فبعد تحديد العدو أو الأعداء سيكون من واجب أجهزة الأمن أن تضع خططها لمواجهة العدو وتحييد خطره على الأمن الوطني، كما سيناط بوزارة المالية أن تضع الموازنات لمواجهة أخطار هذه العدو، كما ستقوم وزارة الخارجية بوضع الاستراتيجيات والخطط الديبلوماسية لمواجهة هذا العدو ولمواجهة خطره، كما ستقوم أجهزة الدولة التعليمية والثقافية والتوعوية بوضع الخطط والبرامج العملية والتنفيذية في مجالات صناعة الوعي من أجل مواجهة العدو الذي اتفقت الدولة والمجتمع على تشخيصه باعتباره العدو.

في سوريالية السياسات وحولها في بلادي، أنه وفي حين أن المخيلة الجمعية للشعب الأردني تصل إلى تشخيص دقيق بل إلى قرار وطني هو أن كيان الفصل العنصري الجاثم فوق صدورنا، هو العدو الذي يخشى الأردنيون منه على وطنهم، فإن السياسة تأبى أن ترى ما يراه الأردنيون، وتأبى أن تتعرف على ما يراه الأردنيون بإنسانهم العادي البسيط وبنخبهم المتعلمة على أن مصدر الشر الرئيس لوطنهم وللمنطقة.

وفي حين يقاطع الأردنيون هذا الكيان، وقد أصيبوا بالإحباط بل والخديعة جراء حجم الخراب الذي أصابهم بعد السلام والتطبيع، وبعد أن انتظروا طويلا ثمار السلام التي وعدهم بها شيمون بيريز واسحق رابين وبعض الساسة في بلادهم، فإن السياسة في بلادهم وبدلا من أن تعمل ليل نهار على مواجهة هذا الخطر الجاثم والماثل، فإنها تعمل وبدأب منقطع النظير على تبني سياسات شراكة في الاقتصاد كما في السياسة كما في الإعلام مع هذه الكيان. وبدلا من وضع السياسات في قطاعات المياه والطاقة والاقتصاد والأمن والسياسة والبيئة والسكان على أنها قطاعات مستهدفة من قبل من يتفق الأردنيون على أنه عدو، فان السلطة في بلادهم تذهب للتطبيع والشراكة والتنسيق مع هذا الكيان. ففي المياه والطاقة والمواصلات والزراعة والبحث العلمي تجري الشراكة لا المواجهة مع يتفق الأردنيون على أنه العدو والخطر المحدق.

على السلطة في بلادي أن تقرأ جيدا، وأن تتوقف كثيرا عند ما تقوله نتائج الدراسة، وهي السلطة التي دأب تيار نافذ فيها أن لا يلتفت إلى الداخل الأردني والى كل الصراخ الذي يضج به هذا الداخل، باعتباره صفرا لا تأثير له على صعيد معادلة إنتاج الدولة الأردنية وعلى صعيد إعادة إنتاجها وحيث دأب هذا التيار على تكريس مقولة أن الدولة في الأردن ولدت نتيجة ديناميات خارجية دولية وإقليمية، وان إعادة إنتاجها يمر تحديدا عبر الخارج ودينامياته، ما يعني أن على السلطة في الأردن أن تفي بما يطلبه الخارج والإقليم منها، وأن لا تلتفت مطلقا لما يطلبه ويصرخ به الداخل، وان لا تخشى مطلقا من قدرة الداخل الأردني على صناعة المعادلات وتغييرها.