هل نوايا واشنطن المبيّتة وغير البريئة تجاه روسيا قلبت السحر على الساحر؟

 
 
بدأت المجابهة بين القطبين (السوفيتي / وارسو - والامريكي / الناتو) في منتصف الاربعينات من القرن الماضي وانتهت بتفكك الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينات في العام 1991 ، حيث سادت بين الطرفين ما كان يعرف بالحرب الباردة ، وللتوضيح نشرح ونقول كان " برنارد باروخ " مستشار رئيس الولايات المتحدة هو الذي استخدم لاول مرة يوم 16 أبريل / نيسان عام 1947 مصطلح "الحرب الباردة " الذي كان يعني المجابهة العالمية والجيوسياسية والاقتصادية والايديولوجية بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والاتحاد السوفيتي وحلفائه من جهة أخرى، ويرى الكثير من المؤرخين ان خطاب ونستون تشرشل المشهور - علما انه لم يكن يشغل حينذاك منصب رئيس الوزراء البريطاني - الذي القاه بمدينة فولتن بولاية ميسوري الأمريكية والذي طرح فيه فكرة تشكيل حلف عسكري للدول الانجلوسكسونية بهدف مكافحة الشيوعية العالمية والذي يعتبر البداية الشكلية للحرب الباردة ، لقد اثبت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي مجالين لنفوذهما بتشكيل الكتلتين السياسيتين العسكريتين، وهما " حلف شمال الأطلسي أو الناتو " الذي تم تشكيله عام 1949 " ومنظمة معاهدة وارسو (1955–1991) ".

لقد انتهزت واشنطن فرصة ترنّح عدوّها اللدود، لتنصّب نفسها القوة الأحادية المرهوبة الجانب، والقطب الأوحد دون منازع، الذي تقع على عاتقه مهمة قيادة العالم ، فلم تكتفي الولايات المتحدة بانهيار الاتحاد السوفياتي، وحلف وارسو، ولا بانتهاء الحرب الباردة بين القطبين، بل على العكس أرادت تعزيز الحلف الأطلسي، وتوسيع دائرة جعرافيته في شرق أوروبا، ليلامس خاصرة روسيا ، فقد ضمت العديد من اعضاء حلف وارسو مخالفة ما تم الاتفاق عليه مع روسيا في العام 1996، مهدّداً أمنها القومي في الوقت الذي كانت فيه روسيا تعاني ظروفاً استثنائية في غاية الصعوبة، وتتخبّط في مشاكلها الاقتصادية، والمعيشية، والإدارية، نتيجة انتقالها من الاقتصاد الموجّه، الى الاقتصاد الحر..

أمام هذا الواقع الصعب، كانت نوايا واشنطن المبيّتة، وغير البريئة، تهدف في الأساس، إلى تطويق روسيا وشل حركتها، ودورها، وقدرتها، وتحجيمها على الساحة الدولية ،فقد حاولت الولايات المتحدة دق إسفين في الخاصرة الجنوبية لروسيا في جورجيا عام 2008، فكان الردّ الروسي حاسماً وصارماً في أبخازيا وأوسيتيا ، ولم تتوقف واشنطن بعد ذلك، عن سياساتها العدائية ضدّ روسيا، حيث كانت أوكرانيا، بعد جورجيا، الكبش والأداة التي أرادت بها واشنطن أن تكون خنجراً دائماً في جسد روسيا وأمنها القومي..

قد يتخيل للبعض بأن الاتحاد الأوروبي وأمريكا قد وجهوا موازناتهم نحو اوكرانيا وهذا غير صحيح.. فالدعم الغربي لاوكرانيا لمجابهة روسيا وكثافة الأخبار كلها فبركات إعلامية حيث لم يتجاوز الدعم الغربي وامريكا بالكامل ، هذا الحشد الغربي الغير معهود على مدى سنتين سوى 2 مليار دولار وهذا لا يكفي لمواجهة دولة عظمى مثل روسيا.. روسيا ستقوم على تدمير البنية التحتية والمرافق الاقتصادية اوكرانيا وإعادتها إلى الوضع الذي كانت عليه عند تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991..

الرئيس الروسي بوتين تابع ورصد منذ زمن ممارسات وسلوك وأهداف واشنطن والاتحاد الأوروبي في أوكرانيا، منذ عام 2008 الأحداث ، والسياسات العدائية المتهوّرة التي تمارسها اوكرانيا دون ضوابط او محاذير ضدّ روسيا، مدعوماً من الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، ومنذ العام 2014، تراقب روسيا باهتمام كبير، وتتابع بكلّ دقة تطورات الأوضاع في أوكرانيا بعد حكم يانوكوفيتش، واستفحال الأمور هناك، حيث لا أحد في الغرب يريد ان يسمع صوت روسيا، وما تمثله أوكرانيا لها من أهمية لأمنها القومي، ومكانة جيوسياسية بالغة الاعتبار، ومجال استراتيجي حيوي لا يمكن المساومة عليه..

نوايا واشنطن المبيّتة وغير البريئة تجاه روسيا قلبت السحر على الساحر .. وهو ما ارغم روسيا على اللجوء الى اخر العلاج عملية " الكي " وجاء قرار الرئيس بوتين، ليقول للعالم كله، إنّ الأمن القومي لروسيا، فوق كلّ اعتبار، ولا يمكن التفريط به، أو المساومة عليه مهما كان الثمن غالياً .. لذلك قامت روسيا بهذه الخطوة بعد أن رفض الغرب الاستجابة لمطلب الرئيس الروسي بوتين، الذي حذر لحوالي 15 سنة، بضرورة التوقف عن نشر أسلحة البنتاغون وقواعده العسكرية عند الحدود الروسية، مثلما رفضت الولايات المتحدة نشر الصواريخ الروسية في كوبا، وتجاهلتها وكادت ان تشتعل حرب عالمية في حينها لولا تراجع الطرفين عن التسخين والوقوع في اتون حرب كونية نووية مظلمة،.. بوتين لن يسمح لأوكرانيا بالانضمام لحلف شمال الأطلسي / الناتو مهما كانت الظروف وفقا لحديثة " أي بوتين " مع كل الوساطات التي حطت رحالها صوب الكرملين خلال الايام الماضية..

انا لست محللا عسكريا ولكن ما يحدث على ارض الميدان الآن هو شاهد عيان، القوات الروسية باتت الان على مشارف تخوم مدينتي كييف وخاركوف ، وقسمت اوكرانيا منطقتين شرقي وغربي نهر " دنيبر".. ومعركة دونباس (في الشرق الأوكراني) "شارفت على النهاية"، وأنه "تمت محاصرة القوات الأوكرانية وقطع الإمدادات عنها، وإذا لم تبدأ القوات الأوكرانية هناك بالاستسلام ، فسوف يقضى عليها". ولهذا السبب " الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي وافق على بدء المفاوضات مع ممثلي بوتين.. سوف يتفاوض للحصول على أفضل صفقة ممكنة..".

على وقع مجريات المعركة والسيطرة الروسية على الارض والجو وتدمير البنى التحتية العسكرية الاوكرانية .. اكدت الولايات المتحدة ومعها حلف الناتو بانهم لن يتدخلوا في الصراع الدائر في اوكرانيا .. ومن متابعاتنا على القنوات الفضائية الامريكية والاوروبية وما يصدر عن النخب السياسية والعسكريين ندرك تماما بان الشعب الأمريكي يعتقد بانه يجب أن يبقى خارج هذه الحرب، ويعتقد الأوروبيون كذلك بالبقاء خارجها ايضا..والتوقف عن شحن الأسلحة وتشجيع الأوكرانيين على الموت في مسعى ميؤوس منهم..

صفوة القول ..

1. ما تقوم به امريكا والمعسكر الغربي بحث الأوكرانيين على الموت بلا فائدة في معركة لا يمكنهم الفوز بها..الرئيس الاوكراني الذي يتلقى اشارات الصمود المزعومة من واشنطن ورئيس الوزراء البريطاني " الذي يتقمص شخصية تشرشل " كلهم لا يراعون مصلحة الشعب الاوكراني المظلوم والذي اصبح وقود هذه الحرب ، فقد خلقوا أزمة إنسانية أكبر بكثير من أي شيء رأيناه من قبل إذا لم تتوقف هذه الحرب المجنونة...

2. بوتين بقراره الحاسم وضع دول الناتو أمام الأمر الواقع، يخيّرهما بين إثنين: إما القبول بعملية " الكي " في أوكرانيا، لاستئصال الورم الذي يهدّد أمن وسيادة روسيا، وإما اللجوء الى حرب عالمية شاملة مدمّرة.. وكما قلت في مقال سابق بوتين اعلن " استراتيجة مكبر الصوت " من اوكرانيا - استراتيجة النظام العالمي الجديد - فلم تعد الولايات المتحدة تستفرد بالقرار العالمي، فهناك على الساحة الدولية اليوم، أكثر من دولة تقف في وجهها، لتضع نهاية لأحاديتها القطبية..

3. حتى لو استمرت المفاوضات بين الجانبين وبعد هذا التدمير العنيف واصبحت أوكرانيا دولة مدمرة اقتصاديا وبنية عسكرية مشلولة وملاين اللاجئين وتكون أوكرانيا درساً وعبرة لكلّ الذين يعوّلون على الولايات المتحدة، حيث لم تكن سياسات واشنطن يوماً، وعلى مدار أكثر من قرنين، لتأخذ بالاعتبار مصالح الشعوب كما يتصوّر الحمقى والمغفلون وهى كعادتها معول تدمير وخراب في اي مكان في العالم تدخلت فيه تلطخت يداها بدم البشر..

لا زال السؤال : هل نوايا واشنطن المبيّتة وغير البريئة تجاه روسيا قلبت السحر على الساحر؟..