مؤشرات على مسار الحرب في أوكرانيا.. عالم جديد قيد التشكيل

 


إن تخندق الكثيرين في مواقفهم السياسية من موضوع الحرب في أوكرانيا ما زال يستند بشكل عام الى ولاآت وشكوك وعداوات تقليدية سواء أكان ذلك للشرق أو للغرب . القليلون هم من إستطاعوا الخروج من ذلك القمقم والولوج في الأسباب والعوامل الخفية وراء موقف روسيا وحلفائها ، أو أمريكا وحلفائها من الحرب في أوكرانيا . الجهر بالعداء أو بالتأييد لأسباب تقليدية لن يشكل قيمة مضافة كونه سيكون في نتائجه واستخلاصاته بعيداً عن واقع الأمور ومجرياتها والنتائج المترتبة عليها .

ان ما يجري هو في حقيقته مرحلة انتقالية بين ما هو قائم في العالم من جهة وما سيكون عليه الوضع في المستقبل من جهة أخرى ، مما يجعل أدوات الصراع المستعملة تتراوح بالتالي بين الاسلحة التقليدية ، و الاسلحة المستقبلية التي تشمل الحصار الاقتصادي والمالي بالإضافة الى استعمال أو حجب التكنولوجيا الرقمية العالية جداً وتطبيقاتها المختلفة ، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي وقدرتها على اختراق الحدود و على توجيه الرأي العام خصوصاً بين أوساط الشباب .
إن متابعة الاحداث المرتبطة بالحرب في أوكرانيا وتطورها تشير الى مجموعة من المؤشرات و الحقائق التي سوف تؤثر على مجرى الحرب من جهة وعلى نتائجها من جهة أخرى . وهذه المؤشرات والحقائق هي :-

أولاً : واقع الأمور يشير إلى أن الاتحاد الروسي لم يقع في الفخ الأمريكي عند قراره التدخل العسكري في أوكرانيا كما يعتقد البعض . إن عدم تجاوب أمريكا والغرب مع مطالب روسيا الأمنية المتكررة قد أعطى روسيا الوقت الكافي لدراسة الخيارات البديلة و منها الخيار العسكري ومساره ونتائجه وتبعاته . وفي هذا السياق ، من الجدير الانتباه الى أن الرئيس الروسي بوتين ومؤسسات الحكم الروسية لا بد أن تملك من الحصافة السياسية ما يؤهلها لتوقع معظم الاجراآت الاقتصادية والمالية والسياسات التي اتخذتها الولايات المتحده والغرب ضد الاتحاد الروسي وحلفائه ،كون الهدف الحقيقي بالنسبة لأمريكا لم يكن أوكرانيا في أي وقت من الأوقات ، بل كان الاتحاد الروسي الذي كان واعيًا للمخطط الأمريكي الحقيقي .

ثانياً : أمريكا لا تهدف الى وقف الحرب في أوكرانيا أو انقاذ أوكرانيا و الأوكرانيين بقدر ما تهدف الى هزيمة الاتحاد الروسي و استنزافه وتدمير اقتصاده حتى لو أدى ذلك الى تدمير أوكرانيا وانهيار أوروبا الغربية و اقتصاداتها وتفكك الاتحاد الأوروبي . فأمريكا بإختصار تسعى الى تدمير الاقتصاد الروسي كوسيلة ومدخل لتدمير روسيا ومنع عودتها كقوة عظمى تنافس أمريكا في نظام دولي جديد متعدد الأقطاب .

ثالثاً : تقود أمريكا الآن حرباً اقتصادية ضد روسيا تحت عنوان عقوبات اقتصادية . العقوبات و المقاطعة الاقتصادية الشرسة لروسيا من قبل أمريكا والغرب هي بالنتيجة سلاح ذو حدين ، وأوروبا سوف تدفع الثمن الأكبر في نهاية المطاف . فالاتحاد الروسي هو أكبر دولة في العالم في مساحتها و هو أغنى دولة في العالم في الثروات الطبيعية . الاتحاد الروسي هو الشريك الاقتصادي الطبيعي لدول أوروبا الغربية خصوصاً في حقل الغاز والنفط والمعادن حيث يزود المانيا مثلاً بالغاز الطبيعي بما يزيد عن 40% من حاجتها وهنغاريا 100% من حاجتها وكذا العديد من الدول الأوروبية ، بالاضافة الى معادن مثل النكل حيث تمتلك روسيا 30% من احتياطي العالم وقد تضاعف سعر هذا المعدن في السوق العالمي بعد العقوبات بمقدار أربعة أضعاف خلال يومين ، وكذلك معدن الباليديوم حيث تنتج روسيا سنوياً 91 طن وهي أكبر منتج في العالم من هذه المادة الاستراتيجية المستعملة في عدة صناعات منها صناعة الرقائق الألكترونية . وتمتلك روسيا كذلك 20% من مخزون العالم من مادة الكوبالت و 40% من البلاتين و12% من الألمونيوم . ويوجد في سيبيريا 20% من مخزون الذهب والفضة في العالم ، و 35% من الحديد الخام . و تنتج روسيا ثلث الغاز الطبيعي في العالم وتملك 6% من مخزون العالم من النفط ( الثانية بعد السعودية) .

رابعاً : تبرهن أمريكا مجدداً ان سياساتها تجاه الآخرين تفتقر الى أي قاعدة حقيقية أو أخلاقية . فهي تخترع الأعداء وهي التي تُجَرِمَهُم حينًا و تُبرءَهُم حينا آخر طبقًا لمصالحها فقط . فمثلاً تسعى الولايات المتحدة الآن إلى استقطاب تعاون كلاً من فنزويلا و ايران من خلال التلويح برفع العقوبات وإلغاء قيود الحصار الاقتصادي على كلا الدولتين مقابل قيامهم بضخ المزيد من النفط في أسواق العالم الغربي للتخفيف من الضغوط الناجمة عن منع الامدادات الروسية من النفط والغاز الطبيعي نتيجة لفرض أمريكا والغرب حصاراً على إمدادات روسيا من الطاقة ( الغاز الطبيعي + النفط ) . أمريكا لا تمانع برفع العقوبات عن كلا الدولتين كونهما لا تشكلان في الواقع أي خطر حقيقي على دور أمريكا و موقعها في النظام الدولي السائد . الهدف من عرض أمريكا فك الحظر عن فنزويلا و ايران هو من أجل العمل على تخفيف أثر منع الاتحاد الروسي من تزويد أوروبا و أمريكا وحلفائها بالنفط والغاز الروسي وذلك فيما لو وافقت كلتا الدولتين على السير في المخطط الأمريكي ، وهو أمر مستبعد .
خامساً : الحرب على روسيا لم تقف عند حدود الحصار الاقتصادي ، بل اتسعت وتمددت بشكل مذهل لئيم يتجاوز العديد من المحظورات لتشمل كافة الحقول تقريباً ومنها الرياضة و الموسيقى و الأفلام والتعاون الثقافي بشكل عام بالرغم من أن العالم متفق على فصل السياسة عن الرياضة مثلاً . الهدف الواضح هنا هو رغبة أمريكية في عزل الاتحاد الروسي عن أمريكا و الغرب بشكل تام و كامل خدمة لهدف الحد من الانطلاق الروسي كقوة عالمية في نظام دولي جديد .

سادساً : تتعامل الصين مع هذا الوضع المضطرب الشائك بصبر صامت لا تسمح بموجبه بالاخلال بالتحالف الاستراتيجي بينها وبين الاتحاد الروسي ، ولا تسمح بالوقت نفسه باستفزاز أمريكا التي تتململ في عقالها و هي تشعر أن الأمور في العالم لا تسير في صالحها وصالح النظام الدولي احادي القطبية الذي تقوده . الصين هي المارد القابع ضمن حدوده الى أن تأتي اللحظة المناسبة لإنطلاقة . وهو أصلاً لم يسمح لإدارة دونالد ترامب باستفزازها إلى حد الصدام لأن الأمور ، طبقاً للموازين والحسابات الصينية الدقيقة جداً ، لم تنضج بعد . ولكن ، مرة أخرى ، كل ذلك تفعله الصين و يتم دون الاخلال بالتحالف الاستراتيجي بين الصين والاتحاد الروسي ، علماً أن الصين قد أبدت استعداداً مبكراً لشراء فائض الغاز الطبيعي و النفط الروسي مهما بلغ ذلك الفائض .

سابعاً : كما أوضحنا سابقاً ، الحرب في أوكرانيا سوف تؤدي ، مهما كانت نتائجها ، الى تغيير طبيعة العالم كما نعرفه سياسياً واقتصادياً واعادة صياغته وتوجيه مقدراته ومسيرته بما يتناسب ومتطلبات التكنولوجيا العالية ، ضمن نظام دولي جديد متعدد الأقطاب . هذه هي الحقيقة وراء الموقف الأمريكي و الغربي من الحرب في أوكرانيا والذي تحاول أمريكا استغلاله لإضعاف فرص الاتحاد الروسي في العودة مجدداً كقوة عظمى في نظام دولي جديد متعدد الأقطاب .

ثامناً : النظام الدولي الجديد أو عالم ما بعد حرب أوكرانيا سوف يعتمد اعتماداً متزايداً على التكنولوجيا الرقمية العالية في ادارة شؤون الدول والمجتمعات . الحصار الاقتصادي و التكنولوجي الذي تمارسه أمريكا و الغرب ضد روسيا سوف يدفع روسيا و الصين و دول أخرى الى العمل بشكل جدي على خلق منطقة اقتصادية جديدة خارج نطاق النفوذ الغربي ، و كذلك على فك سيطرة أمريكا وقبضتها على التكنولوجيا الرقمية العالية وتطبيقاتها وطرح بدائل جدية ومؤثرة لها ، خصوصاً بعد أن ارتكبت أمريكا الخطأ الخطيئة بإخضاع تلك الاحتكارات مثل ميكروسوفت ، وفيسبوك وتويتر و أبل وغيرها الى متطلبات السياسية الأمريكية والى نهج الحصار الاقتصادي والتكنولوجي الذي تمارسه ضد الاتحاد الروسي ، وقبل ذلك ضد الامتداد والتطور التقني الصيني في هذا المجال . وهكذا ، فإن المزيد من السيطرة السبرانية على كافة أوجه الحياه للإنسان الفرد سوف تدفع الدول الكبرى الى مزيد من الاستثمار في خلق أدوات التكنولوجيا الرقمية الخاصة بها وبشعوبها ، وهذا هو السلاح الجديد في العلاقات بين الدول خصوصاً الدول الكبرى ، وهو الأساس الحاكم للنظام الدولي الجديد في ظل استحالة استعمال الخيار النووي .