رفوف ذكريات
ما نحن الا حصيلة ذكريات الماضي، ما من تصرف نقوم به إلا و قد كان من اثر الماضي، ملامح وجوهنا تعكس تفاصيل ذكرياتنا، كلماتنا و حروفنا الحالية سُطَّرت و رُتِبَّت بناءً على جملنا السابقة، أذواقنا في اختياراتنا الحالية مبينة تباعاً لخياراتنا السابقة.
ذكرياتنا لا تفارقنا ابداً، حاضرة دائماً معنا، لا نتذكرها حرفياً في كل دقيقة، لكنها هي من صنعتنا، من غيرتنا مَن جعلتنا على ما نحن عليه، محفورة في وجداننا، ملتصقة بذاكرتنا، رائحتها عابقة في كل مكان، ألوانها موجودة و ترسم كل لوحة من لوحتنا على مر الازمان، واصواتها تعلو و تصدح بكل الزوايا، و نسماتها تهب و تبعثر تنسيق المكان، و تعيد ترتيب الأوراق و تحرير الاصفاد و تقييد الحريات، تصفعنا عند الهذيان، توقظنا عند الغشيان، تحمينا في اللحظات التي تسبق الطوفان.
ففي كل يوم و في كل تصرف، تكون الذكريات هي من تتحكم فينا، فردود أفعالنا تكون تلقائية مبينة على تسلسل أفكار معينة قادمة من رفوف الذكريات، محملة ببعض العواطف و المشاعر، و مشبعة بكل التجارب.
نستيقظ صباحاً رأسنا مليىء بالأفكار الجميلة او القبيحة، وكل هذه الأفكار مرتبطة بالماضي بطريقة غير مباشرة؛
فهي من ترسم على يومنا ملامحه، فان طرأ على بالنا الجميلة منها كان يومنا سلساً مرحاً لطيفاً و مفيداً و ايجابياً، لاننا نستجدي المشاعر نفسها التي قد سبق و عشناها؛ مبرمجًا عقلنا و وعينا عليها. والعكس صحيح تكدر يومنا و تضيق بنا الدنيا بما رحبت.
واقعياً، كلنا مررنا بماضٍ جميل و اخر أليم، لكن كلاهما له اثره علينا، فما زلنا متمسكين بتلك الايام الخوالي، و ما زلنا نحلم بأن تعاد مرة اخرى، سواءً كان لإعادتها من شدة حلاوتها او لمحوها و تهشيمها من شدة قساوتها.
فبين هذين الخيارين، نجد من هو ممتن و سعيد و من هو ناقم حاقد.
لنكن ممتنين لماضينا و ذكرياتنا ، فهما من صنعننا؛ فلولا هذا الماضي ما كنا قد تغيرنا، و لا تطورنا، ولا قوينا او ضعفنا، لما كنا قادرين على معرفة ما نريده حقاً، و ما لا نريده فعلاً، ما كنا قد وصلنا الى مرحلة اصبحنا بها قادرين على الاقل عدم تكرار الأخطاء و التصرف بحنكة و مهارة.
فلولا ماضينا و ذكرياتنا ما عدنا علمنا في اي الاماكن تضيء ارواحنا و في أيهم تنطفىء. في اي الأوقات نزهر و في اي الأوقات نذبل. اسباب فرحنا و ما هي اسباب خيبتنا. تعلمنا كيفية انتقاء حروبنا و مجادلاتنا، محاربة نفسنا و رغباتها، و مقاومة شهوتنا، تعلمنا كيف نرقص على ألحان أحزاننا، و ننصب العزاء على أفراحنا، و كيف نتسلق جبال شاهقة كي نحقق أحلامنا، تعملنا كيف لنا ان نرى النصف المليء من كأسنا، تعلمنا كيف الأمور لا تبقى على حالها، تعلمنا العفو عن اخطاءنا و اخطاء غيرنا، تعلمنا انه يجب علينا مغفرة زلاتنا و مسامحتها، تعلمنا ان الصفح كيف له ألا يكون فقط عند المقدرة، تعلمنا ان البطء و السرعة لا يجديان نفعاً، وان الوقت سوف يمضي و يمر شئنا أم أبيّنا؛ تعلمنا متى يمكننا نفث غبار رفوف ذكرياتنا، و متى يجب أن تتكدس عليهم اكواما، لتكون نسيّاً منسيا.
لنكن ممتنين على مجموعة الذكريات هذه التي صنعت
هويتنا و صقلت خبرتنا علّت مرتبتنا أمام أنفسنا.
لا تدع للنقم و الحقد على الماضي مكاناً في قلبك و عقلك، فيجعله أسودا مغبراً حالك الظلام، علقماً مريراً لا يذقك حلو الأيام.