حمار جدتي ورده !
حمار جدتي ورده !
حاتم الازرعي
لا أعرف لماذا بقى حمار جدتي عالقا في الذاكرة ، رغم مرور مدة زمنية طويلة على واقعة " الحمار " ، لكن ما اعرفه بشكل واضح لا لبس فيه ، ان الواقعة تقفز الى ذاكرتي بشدة بالتزامن مع اطلالات عديد من مسؤولي الادارة الحكومية وهم يبثون على الملأ وينشرون بفرح غامر قرارات وإجراءات تمس حياة الناس وتصيب بمقتل آمالهم وتطلعاتهم وتهدد مستقبلهم، وتأخذهم إلى المجهول في طرق اللاعودة .
حدث ذلك في قرية شطنا قبل نحو خمسين عاما ، حين كان الناس ، قبل شبكات المياه ، يعتمدون في شربهم وطبخهم وسقاية الماشية على مياه الآبار " والجيع " ، حيث طلبت الي الجدة " وردة " ، ولها من اسمها نصيب بالغ ان اجلب الماء من " الجيعة ".
نظرت الى الجدة باستغراب ودهشة طفولية أقرب إلى الاستنكار ، إذ لم لم أكن اعرف ماذا تعني " الجيعة " ، ولا اعرف اين هي ، وكيف اصل إليها !!.
أدركت الجدة خوفي وحيرتي وجهلي التام بالمهمة المطلوبة ، فبادرتني بالقول :" الحمار يدلك " ، ارتفع لدي منسوب الخوف ، وظننت ، وبعض الظن إثم ، بأن الجدة قد يكون أصابها الخرف ، بحكم التقدم في العمر، إذ كيف لحمار ان يقودني إلى الجيعة !! .
بفطنتها وفطرتها ونقاء سريرتها قرأت الجدة ما يجول في خاطري من أفكار وتفهمتها ، وقالت وعلى محياها ابتسامة محبة :" ما عليك أني برجبك على ظهر الحمار وهو بوخذك..بس يوصل عند الجيعة لحاله بوقف .. هاي مفتاح القفل ..إنشل المي بالدلو، عبي بالقلان ، وارجب عالحمار لحاله برجعك لهون " تقصد البيت طبعا المكان الذي انطلق منه الحمار .
مع إحضار الجدة الحمار ، ايقنت جديتها في الطلب ، وأنها لا تداعبني ، وليس في الأمر مزاح ، فتسارعت دقات قلبي وارتجفت يداي ، وخارت قواي، والجدة لا تبالي بما آل اليه حالي ، ليس من باب الاهمال ، وإنما ليقينها ان الحمار على قدر المسؤوليه ، وانه إعتاد إنجاز مهام مماثلة ، لا بل أكثر تشابكا وتعقيدا من مجرد جلب الماء .
اسقط بيدي، ولم يعد لدي من خيار آخر غير الانصياع لتلبية طلب الجدة ، وتسليم أمري للحمار ، والاعتماد عليه في انجاز المهمة، وطمأنت نفسي " الجدة تحبني ولا يمكن أن ترسلني في مهمة تشكل خطرا على حياتي " .
بدأت الجدة بتجهيز الحمار للمهمة ، وضعت الخُرج على ظهره ، وفي كل جهة منه جالون حديد محفور عليه حرفين ( ج.ع) ، علمت لاحقا أنهما اختصارا للجيش العربي .
حملتني الجدة برفق وحنان ، واركبتني ظهر الحمار ، ونخشته بمطرق على مؤخرته ، وبصوت واثق قالت : " حا " ، فاستدار وسار سالكا طرقا سهلة تارة ، وعرة احيانا ، لم اعهدها من قبل ، وابتعدنا ، ولم اعد أرى بيوت القرية ، والحمار يواصل المسير وعيوني تحدق في المكان الموحش ، وسط غابة من الأشجار، ولم أكف النظر الى الخلف عسى أرى بيوت القرية او احد قاطنيها ممن اعرفهم ليطمئن قلبي وتهدأ نفسي .
واصل الحمار مسيره، وسط عدد من الآبار على جانبي الطريق ، فأيها يا ترى المطلوب !؟ وكيف لحمار ان يميز بين آبار متشابهة !؟ أسئلة حيرتني ، وجاءت إجابة الحمار شافية وافية ، توقف فجأة عند أحدها، واقترب من جُرن ماء مرتفع قليلا، ما اتاح لي النزول عن ظهره .
"الأن لحظة الحقيقة ، وقطع الشك باليقين " هكذا حدثت نفسي " المفتاح يحل اللغز " اخرجته من جيبي الثقوب وضعته في القفل " يا الله فُتَح " صحت بأعلى الصوت ببراءة ، رفعت غطاء البئر ، وبدأت انشل الماء واعبء الجالونات بفرح غامر ، وضعتها في الخرج ، اعتليت ظهر الحمار ، فاستدار وسلك ذات الطريق عائدا الى البيت ، حيث كانت الجدة تنتظرني.
انزلتني الجدة عن ظهر الحمار ، وقالت بثقة : " شايف كيف بعرف لحاله يدلك على الطريق ، ويوخذك ويرجعك بأمان " ، وقبل ان تهم بإخراج الجالونات من مكانها لتملأ بها "الخابية " ، سألتني : " سقيت الحمار " وهي المهمة التي كلفتني بها حال الوصول إلى البئر .
رحم الله الجدة الطيبة الحنونة ، وقيض لنا مسؤولين يقودوننا الى الطريق الصحيح ولو بغريزة حمار جدتي !