الشخصية الأردنية : النشأة وفرص التغيير
بالنظر إلى الفرد المتعلم نجد أن في عقله وقلبه جانبين بالفطرة التي وُلِد عليها، جانب الخير الذي تنمو عليه وبه جملة من الخصائص والسمات من خلال الأسرة والتربية والتعليم والحياة العامة من مثل: المرونة والانفتاح والابتسام والتفاعل الإيجابي والتفكير والتواصل الرحيم، وجانب الشر الذي تنمو به وعليه جملة من الخصائص والسمات من مثل: التشدد والتعصب والانغلاق والتواصل الجاف المتقطع المفضي للتنمر والعنف. وهنا نقف ونتأمل واقعنا في عدد من الأنظمة الفرعية مثل: نظام الأسرة والنظام التربوي التعليمي، وأنظمة الإعلام والوعظ والتواصل الاجتماعي وغيرها، ونخص بالنظر جميع مكوناتها ابتداء من فلسفتها وبنيتها ومحتواها، والموارد البشرية المشرفة عليها والعاملة فيها، لنجد ما نبحث عنه من أسباب ومصادر ساهمت بقوة في هذا التشكيل للشخصية الأردنية.
ونتيجة ارتفاع نسبة تأثير نظام التربية والتعليم المدرسي على تشكيل الشخصية الأردنية، وخاصة في مرحلة التعليم المدرسي في سنواته المبكّرة بسبب المرحلة العمرية وخصائصها الأنسب في النمو والاكتساب نقف على الحقيقة الأهم وهي:
أن مشكلات المجتمع عموما أسبابها تكمن في نظام التربية والتعليم، كما أن الحلول والخروج الآمن للتطور والحداثة تكمن في نظام التربية والتعليم أيضا. وفي الوقت نفسه من يبحث عن تماسك المجتمع ومتانة منظوماته القيمية عليه بنظام التربية والتعليم، ومن يستهدف هدم المجتمع وبعثرته وتحلّله من قيمه وثوابته عليه أيضا بالمدخل الوحيد وهو نظام التربية والتعليم، وعند التدقيق بهذا النظام نجد خصوصيات لكل من: المعلم إعدادا وتدريبا، والعمليات في مجال الإدارة والإشراف والتعليم والتقويم والمراجعة، وبيئات التعلم المركّبة في جوانبها المادية والتقنية والاجتماعية والنفسية والتربوية، والطلبة ووضعهم بين التلقي وبين التفاعل النشِط .
وعليه، تُعدّ التربية والتعليم عملية اجتماعية تصل امتداداتها ومترتباتها إلى كل بيت ومؤسسة في المجتمع،ويتوقف النمو والازدهار المجتمعي، أو التردي وتفشي الجهل المدني والإداري والتقني على مضامين نظام التربية والتعليم، وكيف تقدم للمتعلمين وفي أي بيئات، ومن أي فلسفات وتوجّهات تشريعية.
وعند التدقيق في ما يتلقاه عقل المتعلم وقلبه من خارج المدرسة، نجد أنه لا يختلف بل ربما يزيد الطين بِلّة سواء أجاء ذلك من الأسرة أم من أشكال الإعلام المختلفة، أم من وسائط التواصل الاجتماعي المتعددة. حيث نجد أن كل هذه المصادر تصب سيلًا من التناقضات المعجونة بالإحباط والفقر واللامبالاة وضعف الأمل بمستقبل مريح ينتظرهم. وعندما تجتمع هذ الظواهر السلبية المجتمعية والمؤسّساتية الحكومية والخاصة، وتتضافر مع سلبيات مكوّنات النظام التربوي التعليمي الذي يعاني من الترهّل والتراجع، ويتلقاها جميعا عقل المتعلم وقلبه، نفهم حقيقة الأمر الذي يجعل من المتعلم بالضرورة متذمّرا عنيفا ساخطا.
ومن أجل تسليط مزيد من الضوء على أهم السّمات والخصائص التي وقفت وتقف وراء الشخصية الأردنية نعرض للآتي :
يتمتع كل مجتمع بمميزات وخصائص ترسم معالم شخصيته وهويّته الوطنية والاجتماعية والثقافية أو ما يسمى بالهويّة الوطنية. ويمكن ملاحظة أن الدولة الأردنية تشكلت قبل الشخصية الأردنية، فلم يكن معروفًا قبل نشأة الدولة ما يسمّى بهويّة وطنيّة أردنيّة في حيّز جغرافي محدّد، فالدولة بعد نشأتها أصبحت هي الباني الأساس للهويّة الأردنيّة، فالمؤسّسات الوطنية مثل: الجيش، والتعليم ساهمت في البناء الأولي للشخصية، فالعسكرية حدّدت ملامح الحزم والنظام والخضوع للأوامر. والقوة والتنظيم، بينما انفردت المؤسّسة التعليمية ببناء القوة الناعمة مثل المعرفة، وقيم التعاون، والحوار وغيرها. ويمكن القول: إن الشخصية الأردنية كانت نتاجًا لهاتين المؤسّستين، فكل عائلة تقريبًا لديها عسكري، ولديها طالب أو أكثر. وإذا كان الجيش مقتصرًا على فئة واحدة من الشعب: الطبقة الفقيرة من الفلاحين والبدو، فإن التعليم قد وحَّد بين اختلاف الطبقات والمناطق الجغرافية والجنس، وشكّل شخصية ربطت الشمال الأردني بالجنوب الأردني معًا، بعد أن كان الشمال تابعًا لحوران ثقافيّا واجتماعيا، والجنوب مرتبطًا بالحجاز.
قيل في الشخصية الأردنية: إنها تتّسم بالبساطة والتعاون وحل المشكلات دون عنف، وتقبّل الآخر، واحترام الاختلاف، (حداد، 2017) إلّا أنها بدأت بالابتعاد تدريجيّا عن هذه السّمات، حيث تعقدت الحياة واختلفت أدوات الإنتاج، وزاد العنف وتباعد الرأي عن الآخر، بل تباعدت الذات عن الآخر، وهذا ما يسمّى بانزياح الشخصية، طبعًا هناك عوامل لهذا الانزياح بعضها موضوعي نتيجة لعوامل سياسية واقتصادية، وعوامل ذاتية ترتبط بخضوع الشخصية لسلطة الدولة وإغراءاتها حتى صار الأردني عابس الوجه متوترًا، أو عدوانيّا.
ونتيجة لوجود مشكلات ونقص في النظام التعليمي مثل: قلّة المعلمين الجيدين، وازدحام الصفوف، وتزايد موجات اللجوء فقد برزت خصائص أخرى مثل: الخوف على الهويّة والخوف من المستقبل واللجوء إلى الهويّات الفرعية مثل العشائرية والمناطقية والإقليمية والدينية ما زاد من الانعزال وعدم الانفتاح على الآخر. أما (معروف البخيت 2017) فقد ذكر أن عوامل ثلاثة أثّرت على بناء الشخصية الأردنية الحديثة مثل البنية الاجتماعية القرابيّة المتمثلة بالعشائر، وفضائلها كالكرم والوفاء والنجدة والتضامن. ويرى أن الأردن عاش لحظة طوارئ تاريخية ممتدة بدءًا من الحياة تحت قسوة الحكم العثماني، فالاستعمار ثم إسرائيل، وهذا أوجد خوفًا من المستقبل، إلى جانب الجديّة والاستعداد للتضحية. أما العامل المهم، فهو ندرة الموارد الطبيعية، الذي علّم الأردني مهارات شظَف العيش، والتخطيط لموارد محدودة في المياه والطاقة، إلى جانب العيش مع الهاشميّين الذين تميزوا بالاعتدال، والبُعد عن الاستبداد ما أكسب الشخصية الأردنية هذه الصفات (البخيت 2017). ويرى (عبيدات 2016) أن المناهج التعليمية التي سادت في المائة عام الأخيرة، تميزت بسيطرة ثقافة أحادية استفحلت مع تأثر الأردنيين بالأفكار المتطرّفة ما أضاف إلى الشخصية الأردنية سماتٍ جديدةً مثل سهولة الانقياد دون تمحيص.
ومن الدراسات المبكّرة للشخصية الأردنية ما نشره سعد جمعة رئيس وزراء أردني سابق بعنوان: مجتمع الكراهية، حيث كشفت الدراسة أن الشخصية الأردنية:
تنزعج من النقد، وتطرَب للمدح، ومن ينتقدك هو عدوّك. وتمارس التسويق الزائف للذات، بما يهدف إلى الحصول على ثقة الآخر بإنجازات وهميّة تقف ضدّ نجاحات الآخرين، فمن ينجحْ يتعرّضْ لهجوم غير مبرّر من المجتمع. (أمل الكردي: 2018).
وهناك من يرى أن الشخصية الأردنية حين ترتقي في سُلّم الوظيفة تبدأ اهتمامها بجمع الثروة والنفوذ و” الشيخة” فتولّدت مدرسة فكريّة في النفاق والكذِب والنميمة؛ ولذلك يقترح (عماري 2011) إعادة تشكيل المجتمع بدءًا من الحضانة وحتى الجامعة بحثًا عن شخصية نزيهة.
وهناك من يرجع إلى أن خطاب الكراهية والعنف يخترق برامجنا التعليمية ومناهجنا، التي بشكل أو بآخر تطالب بتضييق قِيَم الحوار والقتل والتسامح بذرائع أخلاقية دينية، ما أدى إلى انتشار ثقافة التضحية والاستشهاد والإشادة بالموت، والانغلاق والعداء ضدّ الآخر، ورمي الخصوم بتُهم الانحلال والكفر. (عماري:2016).
كما أن الكتب المدرسية التي سادت في العشرين سنة الماضية كانت متّسمة بحفز الأفكار المتطرفة إلى حدٍّ وصفها أحد الباحثين بالمناهج الداعشيّة على أساس أنها تشجّع على محاربة الآخر والتضييق على المرأة والعنف (عبيدات 2015).
ثانيا : منذ سنوات عديدة يؤكد المسؤولون والخبراء التربويون، وبعض النواب والكتّاب والإعلاميون في المملكة على وجود خلل في بعض المباحث الدراسية، ويطالبون بتغييرها وتنقيتها من كل ما يشجّع بشكل مباشر أو مضمر على التطرّف والتشدد والعنف، وجعلها تقوم على ترسيخ معاني الاعتدال والوسطية والقيم الإنسانية العُليا، مثل العدالة، والتسامح، والمحبة، وقبول الآخر في الحياة، واحترام المرأة وحقوقها، والرأي والرأي الآخر، والانفتاح على حضارات العالم.
كما عُقدت مؤتمرات وندوات وورشات وحلقات نقاشية حول هذا الشأن. وهنا تجدر الإشارة إلى أن خبيرًا تربويّا مرموقًا هو الدكتور ذوقان عبيدات نشر دراسةً بعنوان «الداعشيّة في المناهج والكتب المدرسية» كشف فيها عن عدد من الاتجاهات والقيَم الشائعة في المناهج والكتب المدرسية، خلافًا لما خططت له وزارة التربية والتعليم، مثل التعصّب والتحيّز لاتجاه ما، وعدم احترام الآخر، أو عدم الاعتراف به. وأشار عبيدات إلى أن لـ»الداعشية» وجهًا آخر في المناهج التعليمية الأردنية «تتمثل في غياب الفن والموسيقى والشعر، وقيَم التفكير المنطقي العلمي والعاطفة، والحب والحنان والذوق، إضافة إلى تغييب أفكار وأشعار لأدباء وشعراء عظماء، أردنيين وعرَبًا، مثل: عرار ومحمود درويش»، وكذلك وجود ما يسميه بـ»المنهج الخفي» وهو المعلّم الذي لا يقتصر أداؤه على تطبيق المنهج الأصلي.