مثلث الابداع
يتعرض هذا المقال لثلاثة مفاهيم هامة ( الدافعية، الإبداع، القيادة، علاقات ارتباطيه ) بغرض جمعها وتوليفها بنسب وآليات خاصة من أجل الخروج بنموذج متفرِّد للقيادة الاستثنائية الفاعلة. على أن يجمع هذا النموذج الوليد في القيادة بين أطراف مثلث الابداع بتوافقية وتناغم تجعل منه قادراً على التأثير والاستشراف والسير الواثق الذي لا يعرف الخوف من الفشل ولا يتعرف عليه.
إن أطراف مثلث الابداع في الشكل الموضح تاليا، التي تقف أحياناً كأجزاء لا رابط بينها وتدفع بالبعض إلى الاعتقاد أنها منفصلة ويشكّل كل طرف منها جوهر عملية الإبداع، نجد البعض الآخرينظر إليها متكاملة ومتفاعلة في مضامينها . فعند التدقيق في المثلث نجد أن البعض ينظرللقائد وكأنه الأساس في العملية القيادية لأنه يعمل مع فريق سلمه دفة القيادة برضاه حيث مارسوا كتابعين وثقوا به ونفذوا توجيهاته، فهو يعمل وفق قاعدة "الأول بين المتساوينthe first among equals "،.
أمّا البعض الذين نظروا إلى الطرف الثاني في مثلث الابداع وأنه جوهر هذه العملية الإبداعية برروا توجهاتهم ودافعوا عنها بحماس أيضاً. فقد أكدوا أن القيادة المبدعة تكمن في العمليات المبدعة التي اتسمت بالمهارة العالية في الأداء، والإتقان في عملية التنفيذ، والإيجابية العالية في عمليات مثل: الاتصال، والإدارة، وضع القرار واتخاذه، والعمل الجماعي التعاوني، والانفتاح على بيئة المؤسسة الداخلية والخارجية تأثُراً وتأثيراً، وغيرها كثير.
أما البعض الآخر فقد نظر إلى النِتاج كطرف ثالث في مثلث الابداع وقال: إنّ النِتاج المبدع المتميز المتصف بالأصالة والمنفعة هو الدليل القاطع على الإبداع من جهة، وهو ثمرة الإبداع المطلوبة من جهة أخرى. فإذا غاب هذا النِتاج فلا نستطيع أن نتحدث عن إبداع، كما هي حال الكثيرين من المبدعين الذين لم يحققوا أهدافهم وانتهوا دونها، وهنا وأمام هذه الإشكالية فإن هذا المقال يحاول إيجاد الصيغ التكاملية التفاعلية بين هذه المفاهيم الثلاثة ليؤكد على أنها جميعاً تتسلسل وتعمل بجدية وذكاء وحكمة ومهارة من أجل ميلاد ثمرة العمل بتضافر الأطراف الثلاثة تحت مفهوم القيادة كنتاج مبدع لها جميعاً.
مقال مثلث الابداع 1
(أ) المبدع.
(ب) العمليات المبدعة.
(ج) النتاج المبدع.
(د) القيادة
وفي العودة إلى الحديث حول مثلث الابداع ووضع القيادة كإطار وجوهر لهذا المثلث، وتسليط المزيد من الضوء على دور الدافعية في تحقيق غايات المبدعين بنِتاجات إبداعية خارقة، هو حديث يوجه بشكل مباشر أو غير مباشر إلى مركزية دور المبدع (القائد) باعتباره المؤلف للسيناريو، والموجه لجميع أعضاء الفرقة في عزف سيمفونية راقية متناغمة تجذب الانتباه وتهز المشاعر وتُدهش المتابعين.
ومع أن أطراف مثلث الابداع تبدو في الشكل منفصلة ومتكافئة –ولو ظاهرياً على الأقل– من حيث الأهمية والتأثير، ومن حيث إن كلا منها قد يكون المبتدأ في العمل، إلا أننا لم نقصد البتة هذا المعنى المكرِّس للانفصال أو الداعي له. فالواقع يؤكد أن هذه الأطراف جميعها متفاعلة متكاملة، تتبادل المراكز الأولى في إحداث بداية الفعل، كما تتبادل المراكز الأولى في الاهتمام والتأثير. وهناك فإنني أؤكد على أن الإبداع الأكبر يَكمُن في العملية القيادية والتي تتصف باشتمالها على الأطراف كلها وإطارها وجوهرها. لذلك عندما نقول العملية الإبداعية ومثلث الإبداع نقصد القيادة كعملية شاملة ونتاج مبدع وليست القيادة كأطراف منفصلة، وهذا ما تمت الإشارة له بالحرف (د) في الشكل .
ومهما يكن التحيُّز لطرف من الأطراف بين الحين والآخر أو بين موقف بظروفه ومعطياته وآخر،
فإن الواضح والذي لا يقبل الجدل هو:
اولا– دور القائد (المبدع) في صياغة العملية القيادية، وتقدير نسب تفاعلاتها ودرجة قوة هذه التفاعلات، وتوجيهات العمل، وتأهيل وتدريب العاملين فيها ليتمكنوا من الكفايات اللازمة لعمل متميز يحقق رؤيته ورؤية المؤسسة، واختيار الدوافع وضمان استمرارها وتدعيمها وتقويتها عند اللزوم…إلخ من هذه الأعمال والتدخلات والإصلاح والتعزيز وبناء الموثوقية. ولكن رغم هذا الدور العظيم للمبدع القائد في تقرير نوعية وشكل العملية القيادية إلا أنها تبقى أكبر منه، وأنه جزء منها، صانعها ومؤلفها وبنفس الوقت أحد مرتكزاتها وواحد من أطرافها.
ثانيا– إن القيادة كعملية إبداعية تُشكِّل المرآة غير الناطقة التي تعكس جوهر القائد المبدع وقدراته المتميزة. ومع أنه أحد أركان هذه العملية، وقطب الرحى فيها، وأن مذاقها ولونها وتميُّزها مرتبط به ويؤشر عليه، إلا أن الجمال الساحر، والتميز المدهش والتوليفة الخاصة، هي بتكاملية العمل وشموليته وتمازج ألوانه وعذوبة لحنه.
ثالثا– إن القائد الذي نتحدث عنه هو فرد وهو مجموعة في آن معاً، هو القائد الذي يتصف بالقدرات العالية وتحسسه للمشكلات، كما هو المفكر الجريء المتمرس على قراءة ما خفي من الأمور، وما يسعى إليه المجتمع في حاضره ومستقبله. ورغم ذلك فإنه لوحده لا يستطيع أن يكوِّن هذا التفرد في القيادة كعملية مبدعة، وكما أسلفنا فقد تراجعت قاعدة القائد الذي ينظر إلى الناس من على ظهر الفرس لصالح القائد الذي يعمل مع المجموعة ويتقدم بهم، من خلالهم ومعهم، وفق قاعدة الأول بين المتساوين. وهذا ما أكّدته معظم النظريات بأن العمل الجماعي والقيادة التشاركية هي صانعة الإنجازات الخارقة.
رابعا– إن الإبداع في القيادة المبدعة هو في الفكرة والرؤية ابتداءً. وهذه الأفكار هي وليدة تحليل الواقع وتشخيصه ومعرفة نقاط قوته وضعفه، وإعادة ترتيب الواقع بعناصره المختلفة بصورة تُغير الترتيب القائم المألوف من جهة، وفي ضوء المتغيرات القائمة والتحديات المستقبلية المحلية والدولية ومستوى الطموحات من جهة أخرى. وهذه التركيبة الجديدة الأصيلة قد تكون من إبداعات القائد وقد لا تكون. ولكن القائد الحاذق، القائد الحقيقي هو الذي يولِّد الأفكار، ويصوغ التركيبة الجديدة، وينسج الرؤية مع الآخرين ومن خلالهم، وقد سبق الحديث عن آليات استمطار الأفكار مع مجموعات العمل بهدفين أولهما: الإسهام بالأفكار والقناعة بهذا الإسهام، وثانيهما: فهم هذه الأفكار وتبنيها ووضع خططها التنفيذية والتفاني في إنجازها بدقة واحتراف.
خامسا– ومع أهمية كل ما ذكر فإن القوة التي تقف وراء هذا العمل، وتدفع باتجاه تحقيقه، هي قوة ذات شأن، ولها أهميتها الكبرى في الإنجاز ومستواه. وقد نتحدّث عن هذه الدوافع ومصدرها، خارجية كانت أم داخلية، فرضها الموقف بظروفه ومعطياته، أم المجتمع بحاجاته ودواعي تطوره. واضحة كانت أم تم الكشف عنها، كما تم استشرافها، وتجليتها، وتعظيم أهميتها ومترتباتها. وبالتالي من الذي فعل كل ذلك؟ هل هو القائد؟ أم القائد والمجموعة؟ أم هي حاجة المجتمع واستجابة المؤسسة الطبيعية في التنافس؟ أم هي كل ذلك معاً؟ وأياً كانت الصورة فوجود الدوافع، ودرجة قوتها واتساع دائرة آثارها وسمعتها، وكم عوائدها، له من الدور الكبير في تقدير مستوى الإنجاز وقربه أو بعده عن الإبداع.
سادسا– ويبقى الإبداع بحد ذاته، وأين هو في هذا المجال الذي تتشابك به الأمور وتتداخل، تتفاعل فيه الأنظمة الفرعية وتتكامل فيه العمليات، يعلو صوته وترتفع درجة حرارة أنشطته. هل هو في الفكرة والآراء ومقترحات الحلول؟ أم هو في مستوى قدرات العاملين والتزامهم ودرجة اندماجهم في العمل وإخلاصهم له؟ أم هو في مستوى احتراف الأداء ودقته في أثناء سير العمل على طول سلسلة العمليات؟ أم هو في الإنجاز النهائي والثمرة الختامية؟ أم هو الحبل السُّري فيها جميعاً؟ وإن كان هو الحبل السُّري ودرجة التميز التي تمتد في كل العمل من أوله إلى آخره. فهل تحتاج إلى سلم ترتقي عليه لتصل إلى درجة التميز تلك؟ وهل هذا السلم هو جملة من المهارات والمتطلبات؟ أم هو فوق ذلك وتتعدد درجاته بحسب مستوى الطموحات، فيكون للإتقان درجة، وللفعالية درجة، وهكذا… لنصل إلى درجة التميز في كل موقع على طول الحبل السُّري الممتد من الرؤية vision كطموح وحلم إلى النتاج النهائي كمنجز واقعي.