أخطر مما قاله طاهر المصري!



 

ما الذي يدفع طاهر المصري٬ للصراخ بأعلى صوته٬ وبكل مناسبة٬ محذرا من استمرار الوضع القائم٬ وكوابيس القادم؟

مبررات السؤال تبدو مفهومة٬ فالرجل كان٬ وما يزال٬ جزءا من النظام السياسي٬ تبوأ أعلى المناصب بالدولة٬ رئيسا للوزراء٬ ورئيسا لمجلس الأعيان٬ وعضوا دائما فيه لسنوات طويلة٬ كما أنه تجاوز العمر الذي يؤهله للتنافس على المناصب أو المغانم٬ وغالبا ما اتسمت مواقفه بالاعتدال السياسي٬ ما يعني أن شهادته غير مجروحة سياسيا٬ ونصائحه لا تندرج في باب المقايضات أو المناكفات.

قد يرى البعض أن هذه المبررات غير وجيهة٬ وربما غير صحيحة٬ وأن الرجل يبحث عن الأضواء٬ أو أن له مآرب أخرى(!)٬ لا بأس٬ نحتكم للموضوع.


هل ما يقوله الرجل٬ ويكرره بمحاضراته٬ يدخل في سياق النقد السياسي المشروع٬ وإذا كان كذلك٬ فما مدى دقته٬ ورجاحته ونصيبه من الواقعية٬ ثم لماذا لا يحظى بما يستحقه من نقاش عام٬ خاصة على صعيد مؤسسات الدولة٬ التي يفترض أن تفتح لواقطها لاستقبال ما يتردد من "نصائح" في المجال العام٬ ليس من جهة المعارضة المشكوك بها بدون وجه حق غالبا٬ وإنما من جهة "عظام الرقبة" الذين لا يستطيع أحد أن يتهمهم بأية خصومة مع الدولة ونظامها السياسي؟

لا يخطر ببالي الانحياز لمقولات المصري وتحذيراته واستشرافاته٬ لكن ما يقوله خطير٬ وأن يصدر من رجل دوله مثله أخطر أيضا٬ لا لأن لدى الأردنيين ما يكفيهم ويزيد من السوداوية والقلق والخوف٬ وإنما٬ أيضا٬ لأن مسؤولين كثيرين٬ سابقين وحاليين٬ يرددون معه ذات السرديات٬ ثم تظل كلها مجرد صرخات في واد لا يسمعها أحد٬ ولا يتقدم للرد عليها وتفنيدها٬ أو حتى نقاشها أي طرف مسؤول٬ وبالتالي تتحول إلى حقائق بـ"دمغة" شبه رسمية٬ وتضعنا بمواجهة سؤال خطير: لماذا يقولون ذلك من جهة٬ ولماذا يصرون على تجاهله من جهة أخرى؟

هل المسألة تتعلق بتوزيع أدوار٬ هل المقصود تكريس حالة القلق داخل المجتمع٬ وتزويد الأردنيين بجرعات أكثر من اليأس٬ واغراقهم بالسواد العام٬ هل يتم ذلك بمجرد الصدفة أم انه فعل فاعل٬ والأهم لماذا كل ذلك٬ هل هو٬ كما يقول المصري وغيره٬ جزء من الاستهداف العام لقبول القادم٬ وما هو القادم٬ هذا الذي لا يمكن أن يمر إلا إذا استسلم المجتمع تماما لقدره المكتوب٬ وانتزعت منه عناصر مقاومته٬ وتم اخضاعه لعمليات مبرمجه لابتلاع المطلوب٬ وربما انتظاره والترحيب به أيضا.

الأغرب من ذلك٬ أن كل ما نسمعه في هذا السياق٬ من صيحات قلق على ألسنة بعض المسؤولين٬ يتزامن -وبتوقيت لافت- مع استطلاعات رأي لمراكز رسمية تؤكد نتائجها هذه الانطباعات٬ وتثبتها بالأرقام٬ كما يتزامن مع تقارير دولية تصدر من عواصم غربية صديقة٬ تصب بذات المربع٬ ومع انفلات اعلامي من الخارج والداخل تحت لافتة "البث المباشر" تتدفق منه رياح غير مألوفة تستقي معلوماتها٬ أحيانا٬ من مصادر داخلية٬ ويتزامن٬ ثالثا٬ مع بيئة إقليمية غير صديقة لبلدنا٬ تحاول أن تعبث بنواميسه وثوابته ومصالحه٬ أو تسفر عن مخططاتها الخبيثة٬ لإحراج بلدنا٬ والتشكيك بصدقية مواقفه.

لا يوجد لدي أي إجابات على هذه الأسئلة٬ ما أعرفه تماما أن بلدنا يمر بحالة من القلق واللايقين السياسي٬ وأن ما نتداوله يكشف جزءا من الحقيقة٬ ويخفي أجزاء أخرى٬ وأن الأردنيين٬ معظمهم٬ يعيشون تحت سطوة "غيبوبة" تبدو مقصودة٬ أحد مظاهرها اشغالهم بقضايا حياتهم اليومية البسيطة٬ وبما يدرج على اجندتهم من أولويات مغشوشة.

ما أعرفه٬ أيضا٬ أن منطق "وأنا مالي؟" احتل الفضاء العام٬ الاجتماعي والسياسي٬ لدى المسؤولين ونخب المجتمع٬ كما أن عدوى السوداوية انتقلت من الناس للمسؤولين٬ فأصبح المزاج العام٬ والخطاب العام٬ يتقاطعان معا على "نغمة" واحدة "البلد خربانة" ..يا خسارة.