الأردن وفق الوصفة الأمريكية-الإسرائيلية؛ ذراع أمني قوي في جسد اقتصادي وسياسي منهك!
في العام 1945 وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها منتجة موازين قوى جديدة، فالبريطانيون والفرنسيون الذين دخلوا الحرب وهم يتربعون على عرش العالم الذي أداروه لقرنين متواصلين، خرجوا من الحرب العالمية الثانية أشبه بالجثث الهامدة والهياكل العظمية، ليتمخض عن الحرب ظهور قطبين جديدين هما الولايات المتحدة الأمريكية التي ستقود منذ تلك اللحظة المعسكر الليبرالي، والاتحاد السوفياتي الذي سيقود بدوره المعسكر الشيوعي والاشتراكي. وفي حين تكفل الأمريكيون بتوجيه الضربة القاصمة في الشرق عبر تدمير الإمبراطورية اليابانية شرقا، تكفل الاتحاد السوفياتي بسحق القوة النازية غربا لتدخل الدبابات السوفياتية برلين عاصمة الامبراطورية النازية في ذلك الوقت.
وفي العام 1945 أي في نفس العام الذي وضعت فيه الحرب أوزارها، كان مشهد الدمار والخراب في أوروبا وفي اليابان لا يمكن للعقل البشري أن يتخيله. فقد وصل حجم الدمار في هذه المناطق حدا جعل من اقتصاديات هذه الدول عاجزة عن توفير الأوليات في قائمة السلع والخدمات؛ أي القوت والطعام والمساكن. وأمام مشهد الدمار في دول أوروبا الغربية التي لم تصلها الدبابات السوفيتية بعد، كما وصلت أوروبا الشرقية، كان القرار الأمريكي الاستراتيجي بإحداث تنمية اقتصادية سريعة وشاملة وحقيقية في هذه الدول وبما يجعل من اقتصاديات هذه الدول، بمثابة اقتصاديات مزدهرة مقنعة في أعين سكانها وبما يجعل سكانها رافضين للنموذج السوفياتي الشيوعي الذي بات قريبا وعلى الأبواب، وكان هذا النموذج في حينها يقدم نموذجا حقيقيا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية لشعوب العالم.
ففي العام 1945 وبدون كبير تردد وضع الأمريكيون مشروعا حمل اسم مارشال الذي كان حينها وزيرا لخارجية الولايات المتحدة في تلك الحقبة. عمل المشروع الذي وصلت قيمة استثماراته إلى 50 مليار دولار على إحداث تنمية حقيقية وبسرعة قياسية في اقتصاديات أوروبا الغربية. وتدرجت خطة مارشال في مراحله تنفيذها حيث كان التركيز في السنين الأولى من الخطة على تطوير البنى التحتية لإنتاج الطعام والمساكن للسكان، لينتقل بعدها ليطور البنى التحتية ثم البنى التحتية الصناعية، ولينجح الأمريكيون في سنوات قليلة في تحويل ركام الخراب العميم الذي انتشر في مدن ألمانيا وبريطانيا وهولندا وبلجيكا من صورة للجحيم إلى نموذج حقيقي للجنة الواعدة، وبما يشكل نموذجا واعدا ليس في عيون سكان أوروبا الغربية فحسب ولكن في عيون تلك الشعوب الأوروبية الشرقية التي كانت تعيش في ظل الحكم السوفيتي.
وبالتوازي مع مشروع مارشال في أوروبا الغربية، نجح الأمريكيون في خلق نماذج اقتصادية مرفهة في كوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة من خلال شراكات حقيقية مع هذه الدول. كما نجح الأمريكيون في خلق اقتصاد مزدهر في بولندا التي عمل الأمريكيون على تقديم أفضل التسهيلات التجارية والاستثمارية للبضائع البولندية التي كانت تدخل السوق الأمريكي برغم نوعيتها الرديئة وغير المنافسة.
ولعل القدرة الأمريكية على خلق نماذج اقتصادية حين تشاء وتقرر، تتجلى في أفضل حالاتها في نموذج الكيان الصهيوني القريب منا. فقد نجح الأمريكيون في تحويل مجموعات من البشر غير المتجانسين عرقيا وثقافيا وحتى دينيا وفي سياق من الحرب الباردة والتوتر الإقليمي إلى دولة، وإلى اقتصاد مزدهر وحيث يبلغ معدل دخل الفرد أكثر من 40 الف دولار أمريكي. وكان الانخراط الأمريكي في الكيان الصهيوني يركز على خلق قاعدة اقتصادية وبنية تحتية صناعية وتقنية متقدمة من خلال المساعدات المباشرة، ومن خلال الاستثمارات الحقيقية للشركات الأمريكية المتقدمة في التقنية، ومن خلال التشريعات التجارية الأمريكية التي كانت تضمن للسلع الإسرائيلية وضعا تفضيليا في السوق الأمريكي. يضاف إلى كل ذلك جهد أمريكي داعم لإسرائيل في الأسواق الأوروبية واليابانية والاسترالية وغيرها.
في كل تلك النماذج التي ازدهرت كان التصنيف الأمريكي لهذه المجتمعات والدول باعتبارها حليفة حقيقية، في مواجهة خطر شيوعي كان سوفياتيا في البداية، ثم صار صينيا في وقت لاحق. وأما في الحالة الصهيونية، فقد كان المطلوب أمريكيا خلق كيان حليف يشكل حائط صد أمام كل المشاريع القومية والإسلامية الوحدوية التي قد تنشأ في المنطقة. كما يشكل ذراعا عسكريا قويا يضمن مصادر الطاقة والنظم السياسية الحليفة في المنطقة.
وفي حين يبدو السجل الأمريكي باهرا على صعيد خلق اقتصاديات ناجحة في كثير من ساحات العالم، فانه يبدو أكثر من مخيب للآمال على الصعيد الأردني. فالأردن ومنذ التأسيس كان جزءا من التحالف والكتلة الغربية الانحلوساكسونية التي قادتها بريطانيا حتى أربعينيات القرن الماضي، ثم الولايات المتحدة لاحقا. وكان الأردن دوما جزءا من منظومة تقسيم العمل الأمريكي إقليميا بل ودوليا، وانخرط الأردن في كل المشاريع الأمريكية على صعيد ضبط الجغرافيا الإقليمية وحيث الكيان الصهيوني غربا، وحيث مصادر الطاقة والمال الخليجي غربا.
كما كان الأردن دوما جزءا من قوات حفظ السلام في كل مكان رغب الأمريكيون أن يكون فيه سلام وحفظ للسلام. كما كان الأردن دوما البوابة التي يفرغ الأمريكيون تلك الحشود الضخمة من اللاجئين حينما يتوسع كيانهم الصهيوني، وحينما يغزون العراق، او حينما يعبثون بواسطة أدواتهم من الجماعات التكفيرية والداعشية في العراق وسوريا، وحيث يطلب من الأردن أن يفتح أبوابه للمهجرين وداخل حدوده، ولا يقبل الأمريكي والأوروبي أن يبقى المهجرين السوريين داخل سوريا وفي المناطق التي خرجت أصلا عن سلطة الدولة السورية، في حين يرى الأردنيون كيف يتعامل الاتحاد الأوروبي الغني جدا مع نفس اللاجئين السوريين والعراقيين على الحدود البولندية البيلاروسية، وحيث يضع الاتحاد الاوروبي قواته وسلاحه في وجه مهاجرين مدنيين عزل يحملون أطفالهم وأحلامهم في حياة كريمة في دول الغرب الغني.
وبرغم كل هذا الكرم الأردني في الانخراط بالسياسات والمشاريع الأمريكية، فإن الحصيلة الاقتصادية والاجتماعية في الأردن تبدو مثيرة للحزن والغضب والشفقة. فمستويات الفقر وصلت إلى نسب قياسية، ومستويات البطالة تقترب إلى مستوياتها في الدول التي تعيش أوضاع حرب مع عدو خارجي أو وضع حرب أهلية. ومستويات الجريمة هي في صعود قياسي، وعدد المطلوبين للقضاء هو أكثر من صادم.
في العلاقة الأردنية الأمريكية يبدو واضحا وجليا نمط الاستثمار الأمريكي في الداخل الأردني، وحيث بات جليا أن الأجندة الأمريكية في الأردن هي وبنسبة تزيد عن التسعين بالمئة هي ذاتها الأجندة الإسرائيلية، وحيث الأردن ومنذ ثمانينيات القرن الماضي ومع صعود اليمين الديني في إسرائيل، هو جزء لا يتجزأ من المشروع التوراتي الصهيوني. وعبر أكثر من سبعين عاما من العلاقة الأردنية الأمريكية المميزة، يبدو جليا أيضا أن الأردن الذي يريده الأمريكي والإسرائيلي هو أردن يشتمل على مؤسسات أمنية قوية، ولكن هذه المؤسسات الأمنية القوية يراد لها أن تكون وسط جسد اقتصادي واجتماعي وسياسي هش بل وفي غاية الهشاشة والضعف.
من يراقب ويحلل طبيعة الشراكة الأمريكية مع الأردن سيلحظ التالي؛ معونات أمريكية شحيحة لا تنسجم مطلقا مع حجم الأعباء والخدمات التي يتوقعها الأمريكي من الأردن غربا وشرقا كما خارج الحدود, كما سيلحظ أن المعونات الأمريكية لا تندرج مطلقا ضمن مشروع أمريكي استراتيجي يتعلق بخلق اقتصاد حقيقي في البلاد، فالمعونات ومنذ الخمسينيات ما زالت تستهدف نفس القطاعات وتتوجه لنفس الفئات والشرائح، ولم تكن متدرجة على صعيد القطاعات الاقتصادية كما كانت عليه في حال الشراكة الأمريكية الأوروبية أو الأمريكية البولندية أو الأمريكية الصهيونية. وعلاوة على ذلك سيلحظ المراقب والمحلل لنمط هذه المعونات، أنه وفي حين يذهب القسم الأكبر من هذه المعونات إلى الجانب الأمني والعسكري، فان الجزء المتبقي من هذه المعونات نادرا ما يذهب إلى خزينة الدولة ونادرا ما يوضع في تصرف الدولة بل يذهب جزء كبير منه على المجتمع مباشرة، تارة تحت مسميات دعم القطاع الخاص، وتارة تحت مسميات دعم المجتمع المدني وتارة تحت مسميات دعم برامج حقوق الإنسان والجندر وغيرها.
والحال، إن نمط الإنفاق الأمريكي هذا الذي يتجنب توفير المال للخزينة، ولكنه يذهب مباشرة إلى المجتمع وإلى القطاع الخاص والى المجتمع المدني يندرج ضمن السياسات الليبرالية الجديدة التي شهدها العالم بدءا من ثمانينيات القرن الماضي مع وصول مارغريت تاتشر ورونالد ريغان إلى السلطة. وهي سياسات تقوم على أضعاف ذراع الدولة لمصلحة المجتمع والقطاع الخاص وما يسمى بمنظمات المجتمع المدني عندما يتعلق الأمر بدول ومجتمعات تصنف على أنها خطرة حاليا أو مستقبلا على الأمن القومي الأمريكي والإسرائيلي. وعليه، فليس من باب المصادفة أن تنتشر جيوش حقيقية ممن يسمون بالنشطاء وبأعضاء المجتمع المدني في الأردن ولبنان ومصر وتونس والمغرب وبتمويل أمريكي وغربي، وحيث يود الأمريكي أن يستثمر في قوى ونخب يأمل أن تكون بمثابة ذراع حقيقي له وقت الحاجة.
تاريخيا لم تقتصر الوصفة الأمريكية الإسرائيلية التي تقول بأردن ذات ذراع أمني قوي وجسد اقتصادي هش ومنهك، لم تقتصر على مجرد إبقاء المعونات شحيحة وعلى تجنب توجيهها للدولة والخزينة، بل تعدى الأمر حد حرمان الأردن من الشرايين الاقتصادية والتجارية والمالية مع محيطه العربي. وليس أدل على بشاعة الوصفة الأمريكية الإسرائيلية وانخراطها في جهد منظم ومتواصل لإبقاء الأردن في حالة الضعف والمراوحة وبما يمكن من فرض التسويات السياسية على حسابه مستقبلا، ليس أدل على ذلك من ملف النفط والطاقة الذي لا أبالغ إن قلت أن هذا الملف يشكل العقدة أو القطبة الخفية وغير الشفافة التي تصنع الجزء الأكبر من الأزمة الاقتصادية في الأردن، وبالتالي فإنها تشكل جزءا كبيرا من مفاتيح الحل للوضع الاقتصادي فيه. فحتى العام2003 كان الأردن يحصل على النفط من خلال شراكاته الخليجية ولاحقا العراقية. وحتى هذه العام كان النفط يتدفق وبأسعار مريحة للدولة الأردنية وللمواطن وللاقتصاد من بوابة الشقيق العراقي.
وليس من باب المصادفة، انه وفي العام الذي احتل فيه الحليف الأمريكي العراق بدأت مشكلة الأردن مع ملف الطاقة أو طلسم الطاقة. فحين وضع الأمريكي يده على العراق ونفطه، حرم الأردن من النفط العراقي وبدأت رحلة الأردنيين مع الملف الطلسم الذي أسمه ملف المحروقات والطاقة. ومنذ ذلك التاريخ صار ملف الطاقة ليس ملفا أردنيا بل بات ملفا أردنيا-إسرائيليا-أمريكيا, والشواهد على ذلك أكثر من كثيرة. ويكفي الإشارة إلى أن مشروع مد أنبوب للنفط العراقي يصل العقبة سبق وأن اتفق عليه الملك الراحل الحسين مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ولكن المشروع وبتدخل إسرائيلي أمريكي تم وقفه. كما تكفي الإشارة إلى حجم الانخراط الإسرائيلي في ملف الطاقة في الأردن من خلال اتفاقية الغاز واتفاق إعلان النوايا الموقع مؤخرا المتعلق بتبادل الطاقة مقابل المياه المحلاة وبرعاية أمريكية.
ولا تقتصر الهندسة الأمريكية الإسرائيلية للواقع الأردني على العناصر السابقة، بل إن الجهد الأمريكي الإسرائيلي في إضعاف الأردن ذهب حد قطع كل الشرايين التي تربط الاقتصاد الأردني بما يحيط به من اقتصاديات شقيقة أو جارة. ففي حين يتمتع الكيان وبرعاية أمريكية بأكبر قدر من الشراكات مع الإقليم ومع العالم، يحرم الأردن من التبادل التجاري مع لبنان ومع سوريا وقبله العراق الذي خضعوا كلهم لعقوبات أمريكية وغربية، كما يتم ضبط مستوى شراكاته مع الخليج العربي بطريقة تحفظ للأردن أدنى قدر من الإفادة من كم الثروات الهائل الموجود لدى الجار الخليجي.