الذكرى 74 للنكبة: تأملات في الفصل العنصري والنكبة المستمرة



يصادف هذا الشهر الذكرى الرابعة والسبعين للنكبة، تلك الكارثة التي حلت بالفلسطينيين مع قدوم الاستعمار الصهيوني إلى وطنهم والذي أسفر عنه قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي في أجزاء واسعة من فلسطين الانتدابية والتهجير القسري للغالبية العظمى من سكان فلسطين الأصليين.

لم تقتصر النكبة على تحويل 750 ألف فلسطيني إلى لاجئين بين عامي 1947 و1949 وحسب، بل تبعها منعهم من العودة إلى وطنهم، ونزع ممتلكاتهم وتجريدهم من الجنسية بصورة جماعية في انتهاك صارخ للقانون الدولي.

ينطبق الأمر ذاته على الفلسطينيين البالغ عددهم 350 ألفاً، الذين هجّروا خلال حرب 1967، ونصفهم من أولئك اللاجئين من حرب عام 1948. وحتى يومنا هذا، ما تزال سياسة تهجير السكان وإنكار حق العودة قائمة مع توالي التهديدات بالتهجير القسري للسكان كما هو الحال في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية، وفي النقب جنوب إسرائيل، وفي مسافر يطا في الضفة الغربية، وما هذه إلا أمثلة حيّة على استمرار النكبة ودوامها.

يتزامن إحياء الذكرى هذا العام مع حزننا الممتزج بغضب شديد حيال مقتل الصحفية في قناة الجزيرة، الفلسطينية، شيرين أبو عاقلة، والتي "اغتيلت بدم بارد” خلال تغطيتها احتياج قوات الاحتلال الإسرائيلي لمخيم جنين للاجئين في الضفة الغربية في 11 أيار/مايو 2022. يسلط مقتل عاقلة -الذي قد يرقى إلى مستوى جريمة حرب- مرة أخرى الضوء على الخطر الذي يتعرض له الصحفيون العاملون في تغطية انتهاكات حقوق الإنسان في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر، كما يستدعي تجديد الدعوات لحمايتهم.

وتتزامن هذه الذكرى كذلك مع غضبنا العارم إثر الهجمات الإسرائيلية غير المسبوقة على المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المبارك وبعده كما لا يفوتنا أن نتذكر أن ما يزيد عن 4,400 فلسطيني، ومن بينهم نساء وأطفال، ما يزالون قابعين خلف القضبان في السجون الإسرائيلية، ومن بينهم أكثر من 500 سجين من المحتجزين رهن "الاعتقال الإداري” الذي يتم بموجبه اعتقال المشتبه بهم دون توجيه تهمة إليهم أو عرضهم على المحكمة، وذلك لفترة غير محدودة من الزمن.

وتأتي الذكرى كذلك على خلفية تطوّرين بالغي الأهمية بدأنا في استيعاب تداعياتهما للتو ألا وهما: اجتياح أوكرانيا في حرب أصبح الملايين فيها لاجئين، مجدداً، وفيض التقارير التي تُقدم أدلة دامغة على توافق معاملة دولة الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين مع تعريف الفصل العنصري.

بالنسبة للتطور الأول، فقد تألف رد فعل المجتمع الدولي الفوري على الغزو الروسي من إدانات علنية قوية، وإمداد أوكرانيا بالأسلحة القادمة من أوروبا والولايات المتحدة، وفرض الاتحاد الأوروبي والحكومات الغربية عقوبات على روسيا، فضلاً عن المقاطعات التي قامت بها المؤسسات الأكاديمية والثقافية والرياضية لها، وسحب قطاع المؤسسات استثماراتها الأجنبية في روسيا.

وتُبيّن هذه الإجراءات مجتمعة أن الغالبية العظمى من الدول، والمنظمات، والشركات والمواطنين العاديين-رغم تنامي الشعبوية في الكثير من البلدان- ما تزال تولي أهمية كبيرة للنظام الدولي القائم على القواعد وحماية حقوق الإنسان، في حين أنه وحتى الآن، لم تُقابل أوجه الظلم التي لحقت بالفلسطينيين بدءاً من أيام الانتداب البريطاني مروراً بقيام دولة الاحتلال الإسرائيلي وحتى يومنا هذا بتصميم دولي مماثل.

فقد وقعت الحقوق الفلسطينية فريسة للمصالح الذاتية الغربية، والشعور بالذنب نتيجة الهولوكوست، والدعاية (البروباغاندا) الإسرائيلية. إلا أن عقوداً من المقاومة الفلسطينية، والمستوى المتزايد من التضامن مع القضية الفلسطينية على مستوى القواعد الشعبية والمؤسسات والذي لم نشهد له مثيلاً من قبل، بالإضافة إلى بداية التحول الجوهري في موقف بعض وسائل الإعلام التقليدية الرئيسية (بما فيها صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية)، قد ساهمت في رفع مصداقية المساعي الفلسطينية لتحقيق العدالة والتحرير.

لعلّ أكثر الآثار الإيجابية للعولمة هي تلك المتمثلة في الترابط القائم بين مختلف النضالات الدولية من أجل تحقيق العدالة والتحرير وحقوق الإنسان؛ إذ تلعب جميع الحركات -انطلاقاً من حركة مناهضة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وصولاً إلى حياة السود مهمة والعدالة لأوكرانيا- وباختلاف الطرق التي تسلكها، دوراً هاماً في التعبير عن الكفاح الفلسطيني من أجل التحرير باعتباره كفاحاً ضد القهر المؤسسي، والاحتلال، والحرمان من الحقوق الأساسية.

أما التطور الثاني، فيُجسّد أحد مظاهر هذا الاتجاه. فبعد عقود من دعوة المنظمات الفلسطينية مثل مؤسسة الحق، استناداً إلى الدروس المستفادة من جنوب أفريقيا، إلى النظر إلى الوضع القائم في فلسطين/ دولة الاحتلال الإسرائيلي بعدسة الفصل العنصري، فقد انضمت إليهم خلال الأشهر الأربع والعشرين الماضية منظمتان إسرائيليتان رئيسيتان لحقوق الإنسان، وهما يش دين وبتسليم. تعد المنظمتان السابقتان من تلك البارزة في مجال حقوق الإنسان، علاوة على هيومن رايتس ووتش، ومنظمة العفو الدولية، والمقرر الأممي الأسبق المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، السيد مايكل لينك.

وتشمل التقارير قدراً هائلاً من الأدلة المجمعة بكل دقة والتحليلات الشاملة التي لا تترك المجال لأي استنتاج آخر سوى ذلك الذي يكون مفاده أن الوضع في مجمل فلسطين ودولة الاحتلال الإسرائيلي يرقى إلى جريمة الفصل العنصري الدولية. من بين هذه التقارير، يحظى تقرير منظمة العفو الدولية المنشور في شباط/فبراير من العام الجاري، بأهمية خاصة بالنسبة لقضية اللاجئين الفلسطينيين، إذ لم يكتفِ التقرير بالإشارة إلى أن النسخة الإسرائيلية من الفصل العنصري تكمن في تقسيم الأراضي (في فلسطين المنتدبة) والشعب إلى وحدات ذات وضع قانوني مختلف، بل ذهب ليشمل اللاجئين بقوله إن حرمان اللاجئين الفلسطينيين من حق العودة إلى الأراضي والبيوت التي نزحوا منها عام 1948 هو الآلية المركزية للفصل العنصري الإسرائيلي.

وهنا تذهب منظمة العفو الدولية في تحليلها إلى أبعد مما ورد في التقارير الأخرى (بالرغم من ذكر قضية اللاجئين سابقاً في تقرير الإسكوا لعام 2017 الذي كتبه كل من ريتشارد فالك وفيرجينيا تيلي). وقد أتى التقرير على ذكر حق العودة أكثر من خمسين مرة، ويُسلط الضوء على عدم اقتصار الهيمنة الإسرائيلية -من خلال إنكار حق العودة- على حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي، بل هي موجهة أيضاً إلى الفلسطينيين الذين تهجروا على مر السنوات، نظراً لأن غيابهم عن أرضهم يُعد ضرورياً للحفاظ على وجود الأغلبية اليهودية فيها، وبالتالي، يعني ما سبق سيادة سياسة الفصل العنصري ما دام اللاجئون الفلسطينيون محرومين من العودة إلى وطنهم.

ما يُظهره هذا التقرير بقدر كافٍ من الوضوح، كما فعل الفلسطينيون على الدوام، هو أن الحفاظ على نظام من السيادة اليهودية، مع حقوق مقسمة للفئات المختلفة من الشعب الفلسطيني -ونعني بهم أولئك الذين يعيشون في الشتات، وفي دولة الاحتلال الإسرائيلي، وفي الضفة الغربية، وفي القدس الشرقية وغزة- لن يقدم حلاً مستداماً للظلم المستمر. وكما علمتنا تجربة جنوب أفريقيا، فليس الفصل العنصري بالأمر الذي يمكن إصلاحه، بل من الواجب القضاء عليه بالكامل. وبحسب منظمة العفو الدولية، فإن "تفكيك نظام الفصل العنصري القاسي هذا ضروري لملايين الفلسطينيين الذين يواصلون في العيش في دولة الاحتلال الإسرائيلي والأراضي المحتلة، ومن أجل عودة اللاجئين الفلسطينيين كذلك”. يتطلب القضاء على الفصل العنصري تفكيك جميع مظاهر التفوق والحصرية والامتياز اليهودية، بما في ذلك القوانين والسياسات والممارسات.

إن الآثار المترتبة على هذا الأمر هي آثار بعيدة المدى؛ إذ يتعارض القضاء على الفصل العنصري مع الرؤية المنصوص عليها في قانون الدولة القومية اليهودية في دولة الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي يستدعي إعادة التفكير الجاد في القضية الفلسطينية والتأمل فيها. يعيش في الوقت الحاضر قرابة سبعة ملايين فلسطيني وعدد مساوٍ لهم من اليهود الإسرائيليين في الأرض الواقعة بين النهر والبحر -فماذا سيكون مصيرهم بمجرد إنهاء استعمار فلسطين بالكامل؟ ما الذي سيحصل للأراضي التي تشكل اليوم قطاع غزة ودولة الاحتلال الإسرائيلي والضفة الغربية، بما في ذلك المستوطنين الإسرائيليين القاطنين فيها؟

يحتاج هذا الموضوع إلى مزيد من التفكير والنقاش، سواء على المستوى الحكومي أو على مستوى المنظمات الدولية، والأكاديميين، والناشطين، ومجتمع الأعمال، وغيرهم.

وتفخر منظمة النهضة العربية (أرض) بدعمها للحوار الدائر حول هذه المسائل الهامة من خلال برنامج القضية الفلسطينية والشبكة الدولية للقضية الفلسطينية. يعد رد فعل "حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) ” فيما يتعلق بأوكرانيا والخطاب المناهض للفصل العنصري بمثابة مصدر إلهام لنا، كما يعزز من عزيمتنا على مواصلة العمل من أجل تحقيق العدالة لفلسطين والفلسطينيين. فبعد سنوات طويلة من الكفاح، اتخذت الأمم المتحدة والمجتمع الدولي الأوسع في آخر الأمر موقفاً قوياً ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، الأمر الذي ساعد في إنهائه. وكما قال نيلسون مانديلا: "حريتنا غير مكتملة دون حرية الفلسطينيين”.