د. الحسبان يكتب : عن ملف الطاقة، وطلاسمه، وأصابع المايسترو الأمريكي في هندسته في الأردن والإقليم

 


كتب د.عبدالحكيم الحسبان - على مبعدة أيام قليلة من احتفال الأردنيين بعيد الاستقلال، اتخذت الحكومة الأردنية قرارا رفعت فيه أسعار المحروقات بأنواعها المختلفة لتسجل أرقاما قياسية لم يسبق للأردنيين أن ألفوها منذ نشأة دولتهم، كما لم تألفها دول الإقليم قاطبة. أسعار المشتقات النفطية باتت هي الأعلى في الإقليم، كما باتت أسعار البنزين تبلغ مثلي سعرها في الولايات المتحدة الأمريكية التي يبلغ متوسط دخل الفرد فيها أكثر من إثني عشر ضعف نظيره الأردني.

ما كان صادما في قرار رفع أسعار الوقود هذه المرة، لم يكن بالقطع هو مستوى الزيادة التي كانت كبيرة جدا، وكان وقعها ثقيلا جدا على نفس الأردنيين، بل إن الصدمة جاءت من مستوى الميكانيكية والتلقائية التي أحاطت بعملية اتخاذ القرار. فالعقل الذي يتخذ القرار بات يتصرف وفق القاعدة التي تقول أن عليه أن يصدر تعرفة للمشتقات النفطية نهاية كل شهر، وهو سيشعر بالتقصير في واجبه أن مرت نهاية الشهر دون أن يوجه صفعته لجموع الأردنيين الذين باتوا هم أيضا ينتظرون نهاية الشهر، وهم يشعرون بالقلق والخوف من نوع الكف وحجمه الذي سيتلفونه في اليوم الأخير من كل شهر. توقيت الرفع الشهري لأسعار الوقود يجب أن يحترم، وهو بات موعدا مقدسا، لا يمكن أن يتم تجاوزه، ولا يعني صانع القرار ولا يهتم إن تزامن قرار رفع أسعار المحروقات مع مناسبة وطنية من قبيل عيد استقلال البلاد.

ثمة جانب آخر مثير للغضب تسببه تلك المكانيكية والتلقائية والروح الاستسهالية التي تتخذ بها السلسلة المتتالية من قرارات رفع أسعار الوقود؛ فمن يتخذ قرار رفع أسعار الوقود لا يرى في المشهد سوى ارتفاع أسعار النفط عالميا كي يقرر وبصورة ميكانيكية رفع أسعار الوقود، لا تفكير مطلقا في انعكاسات رفع أسعار الوقود على معيشة الشرائح الاجتماعية المختلفة التي باتت منهكة جراء عقود طويلة من سياسات الإفقار الذي أجزم أنه إفقار ممنهج ولا ينتمي مطلقا لفئة الآثار الجانبية غير المقصودة. فلا تفكير مطلقا في انعكاسات الارتفاعات المتتالية لأسعار الوقود على تكلفة الإنتاج في القطاعات الصناعية والخدماتية، وبما يجعل المنتج الأردني يعجز عن المنافسة أمام المنتجات غير الأردنية التي تدفع كلفا للطاقة تقل كثيرا عن نظيراتها الأردنية.

في ملف النفط وتسعيرة المشتقات النفطية بات يتكدس كثير من الشر والبؤس الذي يصيب الأردنيين. فالأرقام تقول أن حجم الاستهلاك اليومي من النفط يوميا هو بحدود ال 140 الف برميل وفقا لتصريحات الوزير المعني، ودائرة الإحصاءات العامة.

 وتشير ارقام مصفاة البترول التي تقوم بتكرير هذا النفط إلى أن حجم المبيعات من النفط المكرر تتجاوز السبعة مليارات دينار.

 وبعملية حسابية بسيطة يتكون هامش من الفرق بين ثمن النفط الخام والمكرر يقترب من الخمسة مليارات دينار. المفارقة أن مليارا واحدا من هذه المليارات يذهب إلى الخزينة، في حين تعجز الحكومة بكل الهياكل والبنى التي خلقتها لإدارة ملف الطاقة من وزارة للطاقة، وهيئة تنظيم لقطاع الطاقة، ولجنة تسعير المشتقات النفطية، عن تقديم الإيضاحات حول هذه المليارات.

 أجزم أن حال الأردنيين سيكون أفضل كثيرا لو أن ما يتم جبايته من أسعار الوقود يذهب بالكامل للخزينة، لان الخزينة حينها ستكون قادرة على تأمين تعليم جامعي مجاني لمن يستحقه، وتوفير طبابة مجانية لمن يحتاجها. كما سيكون بالإمكان تشييد بنية تحتية حديثة بدل تلك التي بنيت قبل عقود ويتم استنزافها جراء الاستخدام الجائر دون القيام بأي عمليات صيانة لها. المبالغ الفلكية التي يتم جبايتها من أسعار النفط يمكن أن تمول نصف الخزينة، وبما يغني مطلقا عن المديونية التي تتصاعد أرقامها منذ عقود.

وفي الإشارة لبعض ذلك الشر الذي يصيب الأردنيين جراء واقع الحال الذي يعيشه ملف النفط والطاقة في بلادهم، يتمثل في تلك الأزمات المرورية الخانقة التي باتت واقعا تعيشه كل مدن البلاد التي باتت تختنق بالبشر حين يودون التنقل لأشغالهم وأعمالهم، كما باتت تختنق بالبضائع التي يود أصحابها نقلها من مدينة لأخرى، أو من شارع إلى شارع، وبما يجعل من تحرك الأفراد والبضائع في الأردن من بين الأعلى في العالم. ملف النفط والمليارات التي تجنى من المشتقات النفطية باتت تحرم الأردنيين من مجرد التفكير في بناء شبكة نقل حديثة لنقل الركاب والبضائع بين المدن المختلقة.

من المفارقات التي يعيشها الأردنيون، أن أجداد أجدادهم كانوا يستعملون القطار للتنقل بين الرمثا والمفرق وعمان والزرقاء في مطلع القرن الماضي أي قبل حوالي الماية وعشرة سنين، في حين باتوا هم يفتقرون إليها في القرن الواحد والعشرين. استسهال جني المال من ملف النفط يفسر كثيرا من أسباب رفض أقامة شبكة للسكك الحديدية بين المدن الأردنية وحيث أكثر من 80 بالمئة من سكان الأردن يعيشون في شريط جغرافي لا يتجاوز طوله الماية وخمسون كم، ما يجعل إنشاء سكك حديد حديثة أمرا غير مكلف على الإطلاق. ثمة كثير من الأسئلة يجب أن يطرحها الأردنيون عن أسباب عدم فتح قطاع النقل العام السككي أمام الاستثمار والمستثمرين.

ومن المفارقات التي يعيشها الأردنيون أو عليهم أن يتعايشوا معها، تتعلق بتلك السياسات والإجراءات التي وبدلا من ان تشجع استخدام المصادر البديلة والنظيفة للطاقة، فإنها تقوم بعمل العكس. بمعنى أنها تحارب تلك الجهود التي يقوم بها الأفراد والمجتمع للاستغناء عن النفط من خلال تطوير مصادر بديلة ونظيفة ومحلية للطاقة. يكفي الإشارة إلى تقاعس الحكومات المتعاقبة عن الاستثمار في قطاع الصخري الزيتي الذي يملك الأردن كميات هائلة منها. كما تكفي الإشارة إلى تلك الضرائب التي باتت تفرضها الحكومة على من ارتكبوا خطيئة تركيب أنظمة لتوليد الطاقة من أشعة الشمس، أو تلك الضرائب التي تزداد سنويا على من يودون امتلاك سيارات هجينة، وبما يؤكد أن المطلوب حكوميا هو استهلاك مزيد من النفط وليس تقليل استهلاك النفط. وفي حين يتجه العالم كله نحو التخلص من استهلاك النفط باعتباره مصدرا لأذى كبير يلحق بالطبيعة بحيث وضعت كثير من دول العالم استراتيجيات للتخلص من آخر سيارة تسير على الوقود الاحفوري خلال اقل من عشرين عاما، فأن الممسكين بملف النفط في الأردن يسيرون بعكس التوجه العالمي، إذ لا يمر شهر دون أن نرى افتتاحا لمحطة وقود جديدة على شوارع المملكة ولا أجافي الحقيقة إذا قلت أنه في احد الطرق في شمال الأردن، باتت هناك محطة وقود كل 2 كم، وهو رقم مرعب ويدلل على حجم الاستثمار الحكومي في تشجيع استخدام النفط بدلا من التخلص منه.

والحال، فإن الطلاسم التي بات يعج بها ملف النفط في الأردن، إن كان على مستوى سياسات التسعير، أو على مستوى المصير الذي يحيط بالأموال الهائلة التي يتم جبايتها من بيع المحروقات، أو على مستوى تناغم هذه السياسات مع السياسات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، أو على مستوى تناغم سياسات إدارة قطاع النفط مع سياسات تحرير الاقتصاد وحيث تحتكر الحكومة قطاع النفط، أو على مستوى تناغم سياسات الطاقة في البلاد مع التزامات الأردن العالمية في التوجه نحو الطاقة النظيفة، أو على مستوى تناغم سياسات الطاقة مع سياسات تطوير قطاع النقل العام في البلاد، تجعل كلها من ملف النفط الملف الذي يتحدث الأردنيون به كثيرا ولكنهم لا يعرفون ولا يفهمون منه إلا القليل، أو هكذا يراد لهم.

لم يعد ملف النفط في الأردن مليئا بالمعطيات حول النفط، ولم يعد ملفا نفطيا تقنيا وماليا بحتا، ولم يعد النفط في الأردن مجرد سلعة مثل البندورة أو الموز، بل بات وبرغم تسميته ملف المشتقات النفطية، إلا أن أقل ما يظهر للعيان فيه هو المعطيات حول المشتقات النفطية. فملف المشتقات النفطية بات صندوقا يشتمل على كثير من أدوات السياسة والسلطة في الأردن، كما على مستوى الإقليم. وفي هذه الصندوق بات تتكدس كثير من أسرار الجباية المالية الهائلة، كما أصابع الكيان الصهيوني، كما أصابع المايسترو الأمريكي، كما أصابع بعض الفاعلين الإقليميين في الخليج أو في العراق، كما بعض رموز المال والثروة الأردنيين.

في محاولة تفكيك بعض الغموض الذي يعيشه الأردنيون مع ملف المشتقات النفطية، لا أجانب الصواب مطلقا بل نحن نصيب قلب الحقيقة حين نقول أن النفط وقطاع الطاقة عموما يشكل واحدة من أربع أدوات تمثل صلب عدة الشغل التي يستخدمها العقل الإمبراطوري الأمريكي في صناعة الإمبراطورية الأميركية وفي المحافظة على ديمومتها. فالنفط إلى جانب حاملة الطائرات، إلى جانب الإعلام والدولار هي أدوات صناعة الهيمنة الأمريكية على العالم وعلى الإقليم. واجزم أنه ومنذ العام 1970 وبسبب فك الارتباط بين طباعة الدولارات الجديدة وبين التغطية المقابلة من الذهب، فقد بات قطاع النفط والطاقة على مستوى العالم أجمع هو شأن أمريكي، لا يتعلق فقط بحاجة الإمبراطورية الأمريكية للطاقة وحسب. ولان النفط صار غطاء للدولار، ولان النفط صار أيضا وسيلة وأداة سياسية تمكن الأمريكي من تشكيل السياسات الإقليمية والعالمية.
في فهم ملف الطاقة في الأردن، يجب الانتباه جيدا لدور المايسترو الأمريكي الذي يصنع معظم السياسة والسياسات في الأردن وفي الإقليم. ففي العقل الأمريكي لا توجد هناك سياسة خاصة بالأردن فقط، بل إن السياسات الخاصة بالأردن هي جزء من سياسات أوسع تتعلق بالإقليم الذي يشتمل على الدول المجاورة وعلى الكيان ألاحتلالي، وبحيث يكون الكيان هو الذي يشكل مركز الثقل وصناعة القرار في الإقليم، وهو بمثابة الوكيل المحلي للإمبراطورية الأمريكية.

الحصافة تقول أن ملف الطاقة في المنطقة وفي الأردن هو شأن أمريكي، وهو قرار أمريكي صرف. ففي لبنان الذي تم اكتشاف كميات هائلة من النفط والغاز في مياهه الإقليمية، يعيش اللبنانيون بدون كهرباء بسبب نقص المحروقات، ويشرف الأمريكيون على ملف الطاقة في لبنان حد تعيين مبعوث أمريكي خاص بالحدود البحرية الخاصة بآبار النفط والغاز المشتركة بين الكيان ألاحتلالي ولبنان. وفي سوريا التي استثمرت الدولة فيها في اكتشاف النفط، بحيث باتت تملك القدرة على إنتاج نصف مليون برميل يوميا يكفي حاجتها ويسمح بتصدير جزء منه، وضع الأمريكيون يدهم على أبار النفط والغاز السورية ليحرموا الدولة السورية من نفطها، وليس أدل على صدق ما أقول أن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية محتلة في سوريا اختارت موقع حقل العمر النفطي ليكون مقرا لها، وهو أكبر حقل للنفط في سوريا.

وفي سوريا أيضا تقول الدراسات أن المثلث البحري المشترك بين سوريا ولبنان والكيان وقبرص يختزن في باطنه كميات هائلة من النفط والغاز، وفي حين يحرم الأمريكيون السوريين من النفط في الشرق السوري، ويحرمون هم واللبنانيون من التنقيب عن النفط في البحر وبقرار أمريكي، فأن الكيان ألاحتلالي وحده هو من تمكن من التنقيب والحفر واستخراج الغاز والنفط، وهو وحده الذي يتمكن من بيع غازه وبما يؤهله ليصبح واحدا من المسيطرين على ملف الطاقة في أوروبا وفي الإقليم، وحيث بات الأردن مثلا يعتمد على الكيان في جزء من حاجته من الغاز. العقل الأمريكي يعتبر الطاقة سلاحا يشهره في وجه الخصوم، بنفس القدر الذي يضعه في يد الحلفاء خدمة لهم.

وفي فهم حركة يد المايسترو الأمريكي لقطاع الطاقة في الأردن وفي المنطقة يكفي الإشارة إلى الوقائع التي عاشتها المنطقة كما عاشها الأردن على صعيد تاريخ السياسة الأمريكية النفطية في منطقتنا. فقطاع النفط الإيراني كان ومنذ عقود في دائرة الاستهداف الأمريكي، وكان المطلوب هو أن لا يبيع الإيرانيون نفطهم طالما أنهم خارج بيت الطاعة الأمريكي وطالما أن نفطهم لا يدعم الدولار ولا يدعم بيوت المال الأمريكية. وقطاع النفط العراقي عاش عقوبات أمريكية عليه لأكثر من خمسة عاما طالما أن النفط العراقي لم يكن يصب في العصب الأمريكي. النفط الليبي عاش أيضا عقوبات أمريكية منعت الدولة الليبية من التمتع بنعمة النفط. ومن المفارقات، أن أكبر بلد في العالم يملك احتياطات نفطية هو فنزويلا، ولكن المايسترو الأمريكي يضع النفط في هذا البلد ضمن دائرة الاستهداف، فباتت فنزويلا مثلها مثل سوريا ولبنان تضطر لشراء النفط من خارج أراضيها في حين أنها تملك الكثير منه داخل أراضيها.

وأما الأردنيون، فقد بدأت مشكلتهم مع المحروقات في العام 2003، وهو العام الذي احتل الأمريكيون فيه العراق، وحتى ذلك العام كان الأردنيون يحصلون على نفطهم بسهولة ويسر من الجار العراقي، وحين احتل الأمريكيون العراق، وبات القرار العراقي ونفط العراق تحت سيطرتهم، توقف تدفق النفط العراقي وبدأت تتشكل الملامح الحالية لملف نفطنا المليء بالشرور والطلاسم. وقبل الشقيق العراقي، كان الأشقاء في الخليج العربي والذي هم الحلفاء المقربون من الأمريكي، يزودون الأردن بالنفط وبأسعار تفضيلية خلال سنوات السبعينيات والثمانينات.

ولا تتوقف الشواهد على دور أصابع المايسترو الأمريكي في الإمساك بملف النفط في البلاد وبمشاركة شركاء محليين بالطبع، على ما سبق وذكرته، بل يغدو من المهم الإشارة إلى أصابع المايسترو الأمريكي في عزل الأردن ومنعه من التشبيك الطاقوي مع المحيط العربي مقابل تعزيز التشبيك بل وخلق حالة من التبعية في مجال الطاقة للكيان ألاحتلالي. فاتفاقية شراء الغاز التي وقعها الأردن من الكيان كانت في صلب حركة أصابع المايسترو الأمريكي، كما كانت مذكرة التفاهم الأخيرة على تبادل المياه المحلاة للأردن، مقابل الطاقة للكيان التي وقعت في الإمارات العربية المتحدة برعاية المايسترو الأمريكي.

في النظر إلى ملف النفط لم يعد يكفي النظر في بعض التفاصيل الصغيرة فيه، واختزال هذا الملف بتلك التسعيرة الجائرة التي باتت تستنزف الأردنيين وتستنزف اقتصادهم حاضرا ومستقبلا، بل بات من الضروري فهم السياقات الإستراتيجية الأوسع، وحيث بات ملف النفط في الأردن يمثل عدة الشغل ومحور السياسة والسياسات، التي تقضي بأن المعادلة الدولية واستطرادا الأمريكية- الإسرائيلية الخاصة بالأردن تقول بأن الأردن ينبغي أن يكون قويا على صعيد الأمن الإقليمي، على أن يكون في غاية الهشاشة والضعف والإنهاك على صعيد الاقتصاد والاجتماع والصحة والتعليم والبيئة.
 


.