العزلة
كم من مرة راودتك فكرة الابتعاد و الانعزال في مكان بعيد جداً، لا تعرف فيه أحد أو أحداً يعرفك؟!
كم من مرة قررت فيها الرحيل دونما الالتفات للوراء، دونما سماع الأصوات، دونما دموع؟! دونما ندم؟!
كم من مرة كانت نواياك الفرار و الذهاب؟ التخلي و الاستغناء؟ كم من مرة أردت الاختلاء بنفسك بعيدًا عن أقرب المقربين؟ و الاختفاء عن الأنظار ؟
كم من مرة وجدت نفسك ضالاً ضائعاً لا تملك نصف جواب على مئات من الأسئلة؟ كم من مرة انعدمت طاقتك و حاولت أن تستجديها و باءت محاولاتك بالفشل؟ كم من مرة أردت الركض مسرعاً هارباً منك و مِن مَنْ معك؟ كم مرة فررت مختبئاً في مكان لا يعلمه أحد؟
كلنا دون استثناء راودتنا مشاعر العزلة و الانعزال الهروب و الابتعاد. كم منا كان قادراً على اتخاذ مثل هذه القرارت؟ كم منا كان يجب عليه الفرار؟ كم منا يحتاج إلى الشجاعة ليتخذ مثل هذا القرار؟ كم منا عزم على القرار ولكن جبنه أعادهُ من منتصف الطريق؟
هذه العزلة التي يحتاجها ذاك المشتعل برماد بركان حنينه، المخنوق في دخان مخاوفه، الغارق في بحر أفكاره، المشتت في وطن قرارته، المنهمك في معرفة ذاته، المبعثر في رصف مشاعره، المنغمس في أحزانه، الحائر بمستقبله، الضائع في معالم حاضره، المأسور في حيطان ماضيه المعتمة، المدمن على جروحه وآلمه.
استغنائك عن كل شي و خلوتك بنفسك، يهيئ لك ظرفاً مناسباً لتلملم به شتات نفسك، لتستوعب كل هذه الاختلاطات والاختلافات فيك، لترتب تلك الفوضى العارمة في رأسك، ليهدأ ذاك الضجيج في أُذنيك، لتنطفئ كل تلك الإشارات الحمراء من طريقك، لتجد عنوان نفسك التائهة الضائعة، حتى يتلاشى ذاك الضباب الكثيف من أمام عينيك.
هذه العزلة التي لابد لها أن تصير، حتى يتسنى لك أن تطفئ بركان حنينك، والإبحار من جديد في بحر من الافكار مختلف تماماً، واصلاً لشط قرارتك الآمن، متمكناً من ترتيب تلك المشاعر المبعثرة هنا وهناك، ناكثاً غبارَ الماضي و أحزانه، لترسم بعضاً من ملامح مستقبلك. و تمضي مبصراً لتفاصيل حاضرك الذي هو ملكك وحدك!
مشافى و معافى متصالح مع نفسك، محبًا ودوداً أكثر اقبالاً على الحياة.