تاريخيا كانت مراحل التغير في النظام الدولي تأتي عقب أزمات كبرى؛ فهزيمة فرنسا في حروب نابليون الأوروبة أفضت إلى معاهدة فيينا 1815، التي أكدت مبادئ توازن القوى واحترام سيادة الدول، وعدم قيام أي منها بتهديد الأخرى.

كما أسفرت الحرب العالمية الأولى عن بناء نظام دولي جديد تجسد في صلح فرساي وتأسيس عصبة الأمم. ونتج عن الحرب العالمية الثانية حدوث تغير في النظام الدولي لمصلحة الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. وهناك اجماع لدى كثير من المحللين على أن الحرب الروسية – الأوكرانية سوف تحدث تحولا عميقا في بنية النظام الدولي.

2

من يقرأ كتاب "رقعة الشطرنج الكبرى" لزبيغنيو بريجنسكي، - مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق- الصادر عام 1998، يعرف ويفهم كثيراً أهمية ما يحدث في أوكرانيا. فأوكرانيا – حسب بريجنسكي - هي رقعة الشطرنج الكبرى، وقد طالب بلاده (فالتزمت ونفذت) بالاهتمام أكثر بها، لأهمية هذا البلد في المشروع الأوراسي الروسي، الذي رأى فيه الأمريكيون طموحاً روسياً للتوسع والعودة بقوة إلى الساحة الدولية. كما دعا بريجنسكي واشنطن إلى أن تحرم روسيا من ثلاث دوائر جيوسياسية مهمة بحكم موقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية وهي أوكرانيا،أوزبكستان، وآذربيجان.

كما أكد بريجنسكي أن أوكرانيا عندما تكون مستقرة وديموقراطية فإنها تُمثل ثقلاً موازيا لروسيا، وطالب بأن يكون ذلك محور الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة بعد الحرب الباردة. وأضاف أن روسيا من دون أوكرانيا لن تكون إمبراطورية كبرى، لكن في حالة وجود علاقات طبيعية بين أوكرانيا وروسيا تصبح روسيا تلقائياً إمبراطورية ومصدر خطر كبير في النظام الدولي.

وحسب بريجنسكي فإن أوكرانيا تطل على البحر الأسود المؤدي إلى المضائق التركية، وأي وجود أمريكي في أوكرانيا سيمنع روسيا من نشر أساطيلها وبذلك يمنع تأثيرها على أوروبا وآسيا. ثم إن الوجود الأمريكي – إن تمكنوا من ذلك - في أوكرانيا وأذربيجان هو وجود على البحر الأسود، ووجود على بحر قزوين مستودع البترول في آسيا الوسطى. ولذلك دعا إلى استغلال اللحظة الواحدية للقطب الناجمة عن انهيار الإتحاد السوفيتي من أجل تعزيز مواقعها في البحر الأسود.

3

وانطلاقاً من التشخيص الاستراتيجي الغربي عموماً والأنجلوساكسوني خصوصاً لروسيا (قيصرية أو اشتراكية أو أوراسية) لعبت الجغرافيا السياسية لأوكرانيا دوراً مهماً في هذا التشخيص، كمخلب قط وساحة للضغط الجيوسياسي.

والقضية الجارية بما يتعلق بخلفية النزاع هي سياسية مرتبطة بقيادة ” اوكرانية” عَّدمية ربطت مصير أوكرانيا بأوروبا الغربية، وسعت للانضمام الى حلف الاطلسي. وهذا الانضمام هو أساس الإشكالية اللتي تشكلت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وحل حلف وارسو عام 1991 ، حيث نصت التفاهمات بين روسيا وأوروبا الغربية وأمريكا من جهة والروس من جهة ثانية بعدم تَّوسع حلف الأطلسي واقترابه جغرافيا من حدود روسيا، ما يعني عدم ضم أي دولة قريبة من الغلاف الجغرافي الروسي إلى عضوية حلف ” الناتو”، بما فيها دول أوروبا الشرقية ،وخاصة دول البلطيق المحاذية للحدود الروسية، وأكرانيا التي تعتبر الأقرب للأراضي الروسية. لكن ماجرى هو أن أمريكا والغرب استغلا ضعف روسيا اقتصاديا وعسكريا بعد سقوط ” الاتحاد السوفيتي” وتفككة إلى دول, وقاما بضم دول أوروبيه كثيره بما فيها دول البلطيق إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الاطلسي.

ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق كانت أوكرانيا محور الصراع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة وروسيا، وكانت ساحة للصراعات والانقسامات والثورات منذ عام 2004؛ فبعد اندلاع ما سمي بـ«الثورة الوردية» في جورجيا عام 2003، اندلعت «الثورة البرتقالية» عام 2004 في أوكرانيا، وهو ما اعتبرته روسيا بمثابة خطر داهم على أمنها القومي، لأن تغيير الأنظمة السياسية في أوكرانيا وجورجيا وبيلاروسيا يعني اقتراب حلف الناتو أكثر من الحدود الروسية.

4

انصرف الغرب منذ العام 2019 إلى وضع الخطط الهادفة لمحاصرة روسيا ومحاولة شطبها من المعادلة الدولية، وكانت استراتيجية الاحتواء والتطويق هي نهج الغرب بقيادة أميركية لتحقيق هدفها، ولهذا كانت عملية أذربيجان ضدّ أرمينيا حليفة روسيا، وكان مشروع الثورة الملونة في كازاخستان ضدّ النظام الموالي لموسكو والعضو في منظمة الأمن الجماعي، ثم كانت السلوكيات الأخطر من حيث الاستفزاز والاستدراج في أوكرانيا التي تحوّلت بشكل واضح الى رأس رمح في الخاصرة الروسية.

أدركت روسيا أن مركز الجيوبوليتيك العالمي بالحسابات الأميريكية انتقل من الشرق الأوسط إلى جنوب شرق المحيط الهادي؛ فقد تحول صعود الصين إلى هاجس حقيقي للولايات المتحدة التي أعادت ترتيب أولويات سياستها الخارجية، حيث تحول احتواء الصين إلى قضية مركزية في السياسة الخارجية الأمريكية، وما عناه ذلك من استمرار توسيع حلف الناتو شرقا، وفتح أبوابه لمزيد من دول الاتحاد السوفييتي السابق للانضمام إليه، مع كل ما يحمله ذلك من مخاطر تهدد الأمن القومي لروسيا والصين معا.

كما أدرك الروس أن سياسة احتواء الصين ستصيبها بأضرار كبيرة، لذا سارعت إلى اتخاذ التدابير اللازمة لحماية أمنها القومي في مجالها الحيوي، حيث تملك حزمة من الأوراق الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية التي يمكن توظيفها ضد السياسات الغربية في أوراسيا التي ترمي إلى تطويقها، حتى لو اقتضى الأمر التدخل عسكريا في الدول المرشحة لعضوية الناتو، وهو ما ينسحب على أوكرانيا.

وردا على السياسات الغربية تجاه أوكرانيا، قامت روسيا سنة 2014 بضم شبه جزيرة القرم إلى سيادتها، وهي حريصة على منع أوكرانيا من أن تتحول إلى قاعدة تحتضن الهياكل العسكرية لحلف الناتو. ومن هنا فإن الصراع بين روسيا وأوكرانيا جزء من التنافس الجيو سياسي المتجدد بين الغرب وروسيا، حول مناطق النفوذ، حيث تعد أوكرانيا حلقة الوصل الروسية - الأوروبية، وقلب"أوراسيا" النابض، بموقعها الاستراتيجي وثرواتها الهائلة وإمكاناتها الضخمة. وكانت العين الأمريكية ناظرة بالفعل إلى أوكرانيا ومنها إلى تطويق روسيا، وتحجيم مجالها الحيوي ما أمكن، وهو ما يدل عليه كلام السيناتور الأمريكي جون ماكين الذي قال في كانون الأول 2011، "إن الربيع العربي يقترب من روسيا بشكل لا يمكن مقاومته".

5

دوائر القرار والتخطيط الإستراتيجي في موسكو، كانت تدرك منذ زمن بعيد ما أدركه بريجنسكي؛ لأن مشروع بوتين هو الأوراسية الروسية، فلا سبيل لعودة أمجاد روسيا إلا بالأوراسية ،ومقتل الأوراسية سيكون انتزاع أوكرانيا من المجال الحيوي الروسي، التي تحتل من الناحية الجيوسياسية موقعا يجعلها في قلب التنافس العالمي بين روسيا وحلف الناتو، ولهذا فإن أي حكومة في موسكو ستبذل قصارى جهدها للحفاظ على أوكرانيا ضمن دائرة نفوذها، وإبعادها عن التحالفات والتكتلات الجيوسياسية الأجنبية.

تكمن أهمية أوكرانيا الاستراتيجية بالنسبة لروسيا في أنها توفر لموسكو منطقة عازلة وطريقا بريا نحو وسط أوروبا، بالإضافة إلى إقامة القواعد العسكرية والمنشآت البحرية على طول الخط الساحلي لأوكرانيا، وهو ما يتيح لروسيا بسط نفوذها البحري في منطقة البحر الأسود.

كان استيلاء روسيا على القرم المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي تضم فيها دولة أوروبية أراضي من دولة أخرى، وأصبح هذا الصراع نقطة تحول في البيئة الأمنية العالمية، من نظام أحادي القطبية تهيمن عليه واشنطن إلى نظام متعدد الأقطاب، حيث ضمنت روسيا بانتزاع القرم، موطئ قدم على البحر الأسود؛ ما سمح لها بنشر قوات أكثر في مناطق البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

ولأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تندلع حرب على أبواب أوروبا، وقد أعاد هذا الصراع إلى الأذهان التنافس بين الامبراطوريتين الروسية والبريطانية، من أجل الزعامة والنفوذ في القرن التاسع عشر. كما تعد العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا الحدث الأبرز منذ سقوط جدار برلين، وقد تكون تلك الأزمة بمنزلة "لحظة السويس" الثانية للقوة الأمريكية، ما ينذر بعصر دولي جديد، لن تكون فيه الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة والمهيمنة منفردة، فضلا عن حتمية إعادة النظر في المقولات التي شكلت رؤية العالم للقوة الأمريكية من قبيل "نهاية التاريخ" و "الاستثنائية الأمريكية".

6

كما تعد رؤية بوتين للعالم مدخلا هاما لفهم طبيعة الصراع بين روسيا والغرب على أوكرانيا، حيث يتبنى فكرة مضمونها التصدي للهيمنة الغربية في الفضاء الأوراسي، والدعوة إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب لا يشكل الغرب داخله نموذجا معياريا، ولا يمكنه التدخل في الشؤون الداخلية للدول، بالإضافة إلى سعي موسكو إلى تبؤ مكانة القوة العظمى في النظام الدولي، ورفض القيم الغربية، أو ما يعرف بالحداثة، والحفاظ على القيم التقليدية للمجتمعات الشرقية(الأسرة، الدين).

وتملك القيادة الروسية قناعة متجذرة بأنها دولة كبرى منذ المرحلة القيصرية مرورا بمرحلة الاتحاد السوفييتي، ولديها شعور بالأسى على تفكك الاتحاد السوفييتي الذي وصفه بوتين بأنه أكبر كارثة جيو استراتيجية في القرن العشرين، وكذلك شعورها بالغبن من الترتيبات التي سادت بعد نهاية الحرب الباردة، وانضمام أكثر دول حلف وارسو إلى الناتو، رغم التعهدات التي أعطاها الحلف في مطلع التسعينيات بعدم ضم دول شرق أوروبا إليه. وإذا كانت روسيا آنذاك لم تستطع مقاومة انضمام دول شرق أوروبا لحلف الناتو، فإنها وضعت خطا أحمر لأمنها الوطني، هو معارضة انضمام كل من جورجيا وأوكرانيا للناتو.

وهذه هي المرة الثانية التي تخطئ فيها الإدارة الأمريكية في تقدير مدى رد الفعل الروسي، ففي سنة 2008 أعلنت روسيا الحرب على جورجيا، وكانت النتيجة خسارة جورجيا أكثر من نصف أراضيها.

من حيث الدوافع العامة للانتقال، هناك رغبة متفق عليها بين القوى الصاعدة على مسرح النظام الدولي، وعلى رأسها الصين وروسيا، على ضرورة إنهاء الأحادية القطبية بزعامة الولايات المتحدة وتحول النظام إلى نظام تعددي يعكس التحولات الواقعية على المسرح الدولي، وأولها تراجع الولايات المتحدة عن صدارة الأزمات الدولية، وبروز سياسات انعزالية في نخبة الحكم الأمريكية، قوامها التوجه إلى الداخل، وعدم الرغبة في التورط في مشكلات دولية إضافية.

وتملك كل من الصين وروسيا العديد من مقومات القوة الشاملة، فالصين لديها نموذج ناجح في التنمية الاقتصادية، علاوة على امتلاكها قوة عسكرية ونووية وتكنولوجية كبيرة، وروسيا بما لديها من مقومات القوة الصناعية والاقتصادية والعسكرية، إلى جانب ترسانة نووية هائلة، وامتلاك امكانات استراتيجية من الطاقة والغذاء. كما أن الدولتين لديهما رغبة في بناء تحالفات قوية، (شنغهاي، بريكس)، وتتفقان على أن الوقت قد حان للانتقال إلى نظام متعدد الأقطاب.

كشفت الأزمة عن حدود القوة الأمريكية، وأن الولايات المتحدة في الوقت الحاضر في أضعف حالاتها، وأكثرها اختلالا وظيفيا منذ أكثر من نصف قرن. وبالنسبة للغرب فإنه يدرك أن خسارته الميدانية شبه مؤكدة، لكنه يعمل على تمديد حرب استنزاف روسيا لأطول وقت ممكن.