92 عاما على "الثلاثاء الحمراء".. ماذا فعل الشهداء الفلسطينيون الثلاثة قبيل إعدامهم؟
من سجن عكا طلعت جنازة.. محمد جمجوم وفؤاد حجازي
محمد جمجوم ومع عطا الزير.. فؤاد حجازي عز الذخيرة
ويقول محمد أنا أولكم.. خوفي يا عطا أشرب حسرتكم
ويقول حجازي أنا أولكم.. ما نهاب الردى ولا المنونا
وإن اختُلف في صاحب هذه الأبيات بين الشاعرين الشعبيين نوح إبراهيم وعبد الرحمن البرغوثي، إلا أنها تحولت إلى أيقونة في مسار النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، بعد أن غنتها فرقة "العاشقين" الفنية.
تحكي الأبيات اللحظات الأخيرة في حياة 3 فلسطينيين أعدمهم الانتداب البريطاني في مثل هذا اليوم (17 يونيو/حزيران 1930)، وهم محمد جمجوم وعطا الزير من مدينة الخليل، وفؤاد حجازي من مدينة صفد، بعد اتهامهم بقتل يهود خلال ثورة البراق عام 1929.
وبدأت ثورة البراق عندما نظم اليهود مظاهرة ضخمة يوم 14 أغسطس/آب 1929 بمناسبة ما يطلقون عليه "ذكرى تدمير هيكل سليمان" أتبعوها اليوم التالي بمظاهرة ضخمة في شوارع القدس، حتى وصلوا إلى حائط البراق، فاندلعت ثور عامة في كل فلسطين، بما فيها مدينة الخليل التي كان يسكنها يهود.
توثيق عن قرب
كتب كثيرون عن تلك الواقعة وتفاصيلها، لكن الفلسطيني عدنان بدوي يعقوب جمجوم (أبو علاء)، ابن شقيق الشهيد محمد جمجوم، اجتهد في جميع ما استطاع من روايات، خاصة من والده، شقيق الشهيد، ووثائق تتعلق بعمّه، وحرص على تصوير سجن "عكا" الذي أُعدم فيه الشهداء الثلاثة.
للاستخدام الداخلي فقط - تسليم تقرير -سياسة-فلسطين-عوض الرجوب-تعرف على "الثلاثاء الحمراء" في مسيرة النضال الفلسطيني//للنشر يوم 17 يونيو
تسابقوا إلى الموت
الجزيرة نت زارت جمجوم (72 عاما) في محله التجاري بمدينة الخليل، واستمعت منه إلى تفاصيل جديدة عن عمه ورفيقيه.
يعود بنا جمجوم إلى أصل التسمية بـ"الثلاثاء الحمراء"، ويقول إن الشهداء الثلاثة أعدموا يوم ثلاثاء، وكانوا ثلاثة، وشنقوا في 3 ساعات متتالية: الساعة 8 فؤاد حجازي، والساعة 9 عطا الزير، والساعة 10 محمد جمجوم.
ويوضّح أن معلومات وصلت إلى الشهداء الثلاثة باحتمال استبدال حكم الإعدام في آخر لحظة بالسجن المؤبد، لذلك كانوا يتسابقون إلى الموت، فمحمد لم يكن متزوجا ولم تكن لديه عائلة، خلافا لرفيقيه، وطلب أن يُعدم في البداية، حتى إن كانت هناك فرصة في النجاة تكون لأحد رفيقيه.
تجارة ورخصة قيادة
ولد محمد يعقوب خليل جمجوم في حارة القزازين، في البلدة القديمة من مدينة الخليل جنوبي الضفة الغربية عام 1910، وفيها تعلم القراءة والكتابة في الكتاتيب أواخر العهد العثماني (1516- 1917).
اشتغل الشهيد محمد مع والده منذ الصغر في التجارة بين فلسطين ومصر، وحينئذ كان الاعتماد على الجمال في نقل البضائع.
كان جمجوم، والرواية لابن شقيقه، من أوائل الحاصلين على رخصة قيادة في مدينته، وكان يعمل على شاحنة تُشغّل يدويا، يملكها أحد رجال الأعمال في المدينة.
خَطب وزُف إلى المشنقة
لم يكن محمد متزوجا، وإنما خاطبا لإحدى جاراته، وكان يستعد للزواج نهاية صيف 1929، لكن اعتقله الانتداب البريطاني قبل موعد زفافه.
وتوفي يعقوب والد محمد عام 1926، بينما توفيت والدته محبوبة النتشة عام 1942.
وقبيل صعوده إلى المشنقة، قالت الوالدة لابنها محمد "أنا ربيتك لهذا اليوم"، كما ينقل أبو علاء عن والده وأقاربه الذين عاصروا تلك الواقعة.
عائلة ثائرة
وكان للشهيد أخوان: أكبرهما عبد الله يعقوب خليل جمجوم (مواليد 1900) الذي استشهد أيضا دفاعا عن القدس خلال معارك النكبة 1948، وبدوي يعقوب جمجوم (مواليد 1920) الذي شارك في معارك القسطل إلى جانب القيادي الفلسطيني عبد القادر الحسيني عام 1948 وأصيب في الرأس، ثم توفي عام 1984، وهو والد محدثنا وعنه نقل أبرز المعلومات.
ويحتفظ جمجوم بكتاب التاريخ الذي كان يُدرس في مدارس الضفة إبان العهد الأردني في خمسينيات القرن الماضي، وفيه صورة وحدية لعمه الشهيد جمجوم.
شهادة طفل مختبئ
عن قصة اعتقال الشهيد ومحاكمته، يقول عدنان جمجوم إن قوة بريطانية اعتقلته بينما كان عائدا مع أمه من كروم العنب غربي الخليل، بعد أن اتهمه طفل يهودي -يدعى إلياهو أبو شديد- بقتل والده من دون أي دليل.
عن تفسيره لكلمة "من دون دليل"، قال جمجوم إن الروايات التي جمعها بما في ذلك شهادة الطفل اليهودي تؤكد أن الطفل كان يختبئ في خزانة عندما قُتل والده، ولم ير القاتل.
ويشير جمجوم إلى أن لائحة اتهام المعتقلين الثلاثة تضمنت تهمة قتل 4 يهود خلال ثورة البراق، بينهم أبو شديد.
وقال إن المحكمة استندت إلى شهادة ابن اليهودي، ودانت 4 متهمين بالقتل وحكمت عليهم بالإعدام شنقا، مع تعويض مالي لذوي القتلى بالجنيه الفلسطيني.
وجرى اعتقال محمد -حسب ابن شقيقه جمجوم- يوم 27 أغسطس/آب 1929، وظل رهن الاعتقال حتى إعدامه في 17 يونيو/حزيران 1930، وخلال تلك الفترة زارته عائلته عدة مرات.
عن تفاصل الزيارة الأخيرة لمحمد، يقول جمجوم: روى لي والدي (بدوي) أن الشهيد طلب من الحراس السماح بإبقائه مع أخيه في السجن، لكنهم رفضوا، فأصر محمد على طلبه وأدخله معه إلى الزنزانة، وسهرا معا حتى الصباح.
زيارة غرفة الإعدام وحِنّاء
يشير جمجوم إلى أن الشهيد فؤاد حجازي طلب قبل إعدامه بيوم واحد أن يزور غرفة الإعدام، في حين قام عطا الزير ومحمد حجازي بوضع الحِنّاء على أيديهما، كما في عادات أهل الخليل، وكأنهما مقبلان على حفل زفاف.
وثّق جمجوم وصية جماعية للشهداء الثلاثة، ومما جاء فيها: "رجاؤنا إلى الأمة العربية في فلسطين ألا تنسى دماءنا المغراقة… رجاؤنا إلى أمراء وملوك العرب والمسلمين ألا يثقوا في الأجانب وسياستهم، على العرب في كل مكان والمسلمين أن ينصروا فلسطين".
هبة شعبية بلا جنازة
يستحضر جمجوم ردود الفعل يوم الإعدام وفي الأيام التي تلته، وقال إن الشعب الفلسطيني هب في وجه الانتداب، وصدحت المساجد بالأذان وعلا صوت الأجراس في الكنائس.
يضيف أن السلطات البريطانية رفضت الإفراج عن جثامين الشهداء الثلاثة لمنع تفاقم الهبة، ودفنتهم داخل سجن عكا 40 يوما، ثم أفرجت عن الجثامين إلى المقبرة الإسلامية هناك في عكا.
القدس الشعلة
ويرى جمجوم أن إعدام الثلاثة كان تحولا في مسار القضية الفلسطينية وبعث روح المقامة في الشعب من جديد، وكما كانت القدس والمسجد الأقصى المحركين لثورة البراق، فإنهما الشعلة ويحركان الشارع الفلسطيني حتى اليوم.
(الجزيرة - عوض الرجوب)