"أنا منحوس".. لماذا يعاني بعض الناس من الحظ السيئ على الدوام؟



في أحد الأيام العاصفة من ربيع عام 1942، وفي مكان ما في ولاية فيرجينيا الأميركية، تلقَّى حارس المنتزه "روي سوليفان" صعقة برق مباشرة، أصابت ساقه اليمنى وأحدثت ثقبا في حذائه. إلى هنا تبدو القصة طبيعية وقد تحدث لأي شخص، ولكن روي لم يكن أي شخص، بل يمكن اعتباره "منحوسا" بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ إنه خلال الخمسة والثلاثين عاما التالية، سيصاب بست صواعق برق أخرى في أماكن متفرقة! تُعَدُّ قصة روي من القصص النادرة والمدهشة، حتى إن اسمه أُدرج في موسوعة غينيس للأرقام القياسية عام 2001 بوصفه الشخص الوحيد الذي نجا من سبع صواعق للبرق! 


أُنتِج فيلم قصير عام 2021 عن قصة روي سوليفان يُدعى "دون في مواجهة البرق" (Don vs Lightning)، ونُشرت قصته في العديد من الجرائد العالمية. وهنا لا بد أن نتساءل: أي سوء حظ أصاب هذا الرجل حتى يُصعق بالبرق سبع مرات، في حين أن من النادر أن يُصعق المرء بالبرق ولو لمرة واحدة؟ وماذا عن الحوادث الأخرى الأكثر اعتيادية في حياتنا اليومية؛ كأن تفوتك الحافلة في اللحظة الأخيرة، أو أن ينفد نوعك المفضل من الدونات دائما قبل أن تحصل عليه، أو أن تجد ماكينة الصراف الآلي معطوبة وأنت في أمس الحاجة إلى سحب بعض المال؟ فما حقيقة سوء الحظ الذي نعتقد أحيانا أنه يلازمنا؟
 

تاريخ قصير للحظ
"الأحداث المؤثرة غير المخطَّط لها ليست نادرة، بل هي أحداث يومية. المصادفة ليست مصادفة. المصادفة موجودة في كل مكان".


لا بد أنك قد تعرَّضت مرارا لحوادث مشابهة، وأُصبت بالكثير من الإحباط وربما لُمت حظك السيئ على ما حدث لك، وربما أنت من الأشخاص "المنحوسين" الذين يعرفون دائما أن الأمور لن تسير بسلاسة لأن حظهم سيئ على الدوام. في الحقيقة، هذه ليست ظاهرة حديثة تماما، بل إن الحظ والنحس ظاهرتان متأصلتان في التاريخ البشري، وممزوجتان بالخرافات والمعتقدات الماورائية لدى الكثير من شعوب العالم حتى هذه اللحظة. أشهر المعتقدات المرتبطة بالحظ تجدها مرتبطة بالمرايا المكسورة والقطط السوداء والخرزة الزرقاء و"إمساك الخشب"، وهي ليست أساطير محلية في الوطن العربي فقط، بل إن لها جذورا في ثقافات قديمة مختلفة.
 


يمكنك أن ترصد الخرزة الزرقاء المانعة للحسد معلقة على مرايا السيارات وحوائط المتاجر الصغيرة وجدران البيوت وأبوابها، كما يمكنك بسهولة ملاحظة تلك السيدة التي تتحدث عما تمتلك من نِعَم ثم تمسك المسند الخشبي للمقعد بقوة حتى لا تُحسد ويذهب عنها النعيم. ولا تنسَ علامة الكف أو "خمسة وخميسة" التي يرفعها المصريون في وجه مَن يخشون أن يحسدوهم، وتحذير الجدات من فتح المقص في الليل حتى لا يجلب المشكلات إلى البيت.

يمكنك أن ترصد الخرزة الزرقاء المانعة للحسد معلقة على مرايا السيارات وحوائط المتاجر الصغيرة وجدران البيوت وأبوابها لمنع الحسد
ولكن إذا كان الحظ والنحس خرافتين حقا، فلماذا يحدث معك ما يحدث؟ ولماذا يبدو أن بعض الأشخاص يمتلكون حظا أسوأ من غيرهم بشكل ملحوظ؟ يُقدِّم لنا علم النفس مجموعة مختلفة من الإجابات المبنية على تجارب علمية، بعيدا عن الخرافات. 

عامل الحظ
"رغم أن الأشخاص المحظوظين والمنحوسين لا يملكون أي فكرة تقريبا عن الأسباب الحقيقية وراء حظهم الجيد أو السيئ، فإن أفكارهم وسلوكهم هما المسؤولان عن أغلب حظوظهم".


لدراسة الأمر علميا، قرَّر "ريتشارد وايزمان" (Richard Wiseman)، عالم النفس الإنجليزي بجامعة هيرتفوردشاير، وضع الحظ تحت الاختبار وسبر أغوار الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم محظوظين في مقابل مَن يعتبرون أنفسهم قليلي الحظ. خلال فترة الدراسة التي استمرت عشر سنوات، تواصل وايزمان مع ما يقرب من 400 شخص ممن يعتبرون أنفسهم إما محظوظين جدا وإما منحوسين جدا، من مختلف الأعمار والمِهَن. أجرى وايزمان المقابلات مع المشاركين، وأخضعهم لاختبارات الذكاء والشخصية ودعاهم لإجراء التجارب في معمله (2). 

في إحدى التجارب اللطيفة التي خضع لها المشاركون، طلب وايزمان منهم عدّ الصور الموجودة في جريدة أعطاها لهم. استغرق الأشخاص المنحوسون -بحد تقييمهم الذاتي- نحو دقيقتين لإنهاء المهمة، بينما استغرق المحظوظون عدة ثوانٍ فحسب، لسبب بسيط هو أنه في الصفحة الثانية من الجريدة، وضع وايزمان رسالة مكتوبة بخط كبير للغاية تقول: "توقف عن العد، هناك 43 صورة في هذه الجريدة". وضع وايزمان رسالة أخرى في منتصف الجريدة تقول: "توقف عن العد، أخبر المُختَبِر أنك رأيت هذه الرسالة واربح 250 دولارا".


أخذ وايزمان الأمور إلى أبعد من ذلك، ونتج عن تجاربه نظرية "عامل الحظ" التي ألَّف كتابا كاملا لشرحها صدر عام 2003 تحت عنوان: "عامل الحظ: المبادئ الأربعة الأساسية" (The Luck Factor: The four essential principles). لاحظ وايزمان من خلال تجربة أخرى أن المنحوسين قد يفوتون الفرص الجيدة بسبب تركيزهم الشديد على شيء معين يعوقهم عن رؤية الصورة الأكبر والفرص المختلفة قليلا، لذلك فاتهم رؤية الرسالة العملاقة في الجريدة. على الجانب الآخر، فالمحظوظون يتمتعون برؤية منفتحة ومسترخية، تمنحهم الفرصة لرؤية كل الفرص الموجودة وانتقاء الفرص الذهبية منها حتى لو لم تكن ما يبحثون عنه حقا.


يُطلق وايزمان على ما سبق مبدأ "احتمالية المصادفة" (Chance opportunity)، ويرى أن الأشخاص المحظوظين يتشاركون درجات محددة في ثلاث خصال رئيسية: "الانبساطية" (Extroversion)، و"العصابية" (Neuroticism)، و"الانفتاح" (Openness). لكي نفهم علاقة الشخصية بالحظ، دعنا نتخيل شخصا انبساطيا يحب التحدث إلى الغرباء والتعرف على الوجوه الجديدة، ويسعى وراء الوظائف التي توفر تواصلا اجتماعيا أكثر، بهذه الطريقة يتمكَّن هذا الشخص باستمرار من الاطلاع على الفرص الجديدة والمثيرة والمربحة، سواء كانت فرص عمل أو استثمارا أو منحا دراسية، على عكس الشخص المنطوي الذي لا يخالط الناس كثيرا، وعادة ما يكون سيئ الحظ.

 

في التجربة السابقة، فشل الأشخاص المنحوسون في رؤية كلتا الرسالتين، بينما نجح المحظوظون في رؤيتهما في معظم الحالات، ويرجع ذلك إلى موقع الشخص من نطاق العصابية. يرى وايزمان أن الأشخاص المحظوظين في العموم يسجلون درجات منخفضة من العصابية، أي إنهم يتمتعون بالهدوء والاسترخاء، بينما المنحوسون يسجلون درجات عالية من العصابية، أي إنهم يعانون من القلق والتوتر، اللذين يتسببان في تشتيت صاحبهما عن الفرص الماثلة أمام عينيه خاصة عندما لا يتوقع حدوثها.
 

ولا ننسى الدور الفعلي للمصادفة في سير الأحداث. يحكي وايزمان في كتابه عن مصادفة عجيبة لا يمكن بحال أن يكون لشخصية السيد "بارنيت هيلزبيرج" (Barnett Helzberg) دور فيها. في عام 1994، وبينما كان السيد هيلزبيرج، صاحب سلسلة محلات مجوهرات شهيرة، يسير في أحد شوارع نيويورك مارا بجوار فندق بلازا، سمع سيدة تنادي شخصا بجواره باسم "السيد بافيت"، وتساءل إن كان هذا السيد "وارين بافيت" رجل الأعمال والمستثمر العملاق نفسه. كان هيلزبيرج على وشك التقاعد ويفكر في مصير سلسلة محلاته، لذا انتهز هذه المصادفة التي قد لا تتكرر، وقدَّم نفسه للسيد بافيت وعرض عليه شراء سلسلة محلاته، وهو ما حدث بالفعل. 

قد يدعو البعض هذا حظا حسنا، ولكن قوانين المصادفة وحدها تستطيع تفسير هذه الحادثة، ولنضِف إليها سرعة بديهة وانفتاح السيد هيلزبيرج الذي ما إن رأى الفرصة حتى أسرع لاقتناصها وتطويعها لصالحه.

 

مركز التحكم
"أنا لست ما حدث لي، بل ما أختار أن أكونه".

(كارل يونغ، عالم النفس السويسري)

في خمسينيات القرن الماضي، طوَّر عالم النفس الأميركي "جوليان روتر" (Julian Rotter) نظرية "مركز التحكم" (Locus of control) التي تفسر قناعة الناس بمصدر الأحداث الجيدة والسيئة التي تحدث لهم. يؤمن بعض الأشخاص أن مركز التحكم في الأحداث يقع في الخارج (External locus)، ويعني هذا أنهم لا يملكون أي سيطرة على ما يحدث في حياتهم، بالتالي يؤمن هؤلاء بالحظ بقوة، ويُرجعون أي حادث مأساوي إلى حظهم السيئ، ويرفضون تحمُّل مسؤولية دورهم الفعلي فيما حدث. عادة ما يعاني هؤلاء من السلوكيات المدمرة مثل الإسراف في التدخين والكحوليات والقيادة المتهورة، وهي في حد ذاتها عوامل تزيد من نسبة حدوث الحوادث والأمراض، ما يُعزِّز إيمانهم بأنهم سيئو الحظ (3).

 

على الجانب الآخر، فإن المؤمنين بأن مركز التحكم يقع في دواخلهم (Internal locus) لا يؤمنون بالحظ كثيرا، بل يعتقدون أن أفعالهم هي المسؤولة مباشرة عن الأحداث التي تقع لهم. ورغم عدم إيمانهم بالحظ، فإنهم قد يبدون للمراقب الخارجي محظوظين جدا، فهم أشخاص متفائلون، يعملون بجدٍّ على تحقيق أهدافهم، ولا يستسلمون بسهولة عند مواجهة مصاعب الحياة، بالتالي يحققون النجاح في الدراسة والعمل بمعدلات أفضل من الفئة الأخرى. لذا بشكل ما، يصنع المؤمنون بمركز التحكم الداخلي حظهم بأنفسهم ولا يعتمدون على مصادر خارجية ما ورائية لدعمهم (4).

المؤمنون بأن مركز التحكم يقع في دواخلهم لا يؤمنون بالحظ كثيرا، بل بأن أفعالهم هي المسؤولة مباشرة عن الأحداث التي تقع لهم.
المؤمنون بأن مركز التحكم يقع في دواخلهم لا يؤمنون بالحظ كثيرا، بل بأن أفعالهم هي المسؤولة مباشرة عن الأحداث التي تقع لهم.

 

الإيمان بالحظ
"أنت تصنع حظك بنفسك".

(إرنست همنغواي، كاتب أميركي)

بالعودة إلى تجارب وايزمان، نجد جانبا آخر للحظ، وهو ببساطة أن الأشخاص المحظوظين يتوقعون الحظ الجيد دائما. الفرق بين المحظوظ والمنحوس طبقا لأبحاث وايزمان هو طريقة تفكير كلٍّ منهما في نفسه وفي مسار حياته. وجد وايزمان من خلال الاستبانات التي قدَّمها المشاركون أن مَن يعتبرون أنفسهم محظوظين يميلون إلى توقُّع أشياء جيدة في المستقبل، فهم يتمتعون بنظرة متفائلة نحو ما هو قادم، وذلك على عكس مَن يعتبرون أنفسهم منحوسين. إضافة إلى ذلك، فإنهم يتوقعون أن تسير الأمور على ما يُرام، سواء استطاعوا التحكم في الحدث المفترض أم لا، أي سواء كان مركز التحكم داخليا أو خارجيا.


لتأكيد النتيجة، قدَّم وايزمان للمشاركين استبانة أخرى يطلب فيها منهم تقييم مدى احتمالية حدوث أشياء سلبية لهم في المستقبل، مثل أن يتعرضوا للسرقة، أو أن يعانوا من الأرق لمدة أسبوع. جاءت النتيجة مؤيدة للتجربة السابقة، حيث وجد أن المنحوسين يتوقعون التعرض لمختلف السيناريوهات السلبية في الاستبانة بنسبة أعلى بكثير من المحظوظين. نتيجة لذلك، خلص وايزمان إلى أن الحظ ليس إلا قدرتك على اقتناص الفرص، باستخدام صفاتك الشخصية الإيجابية، بالتفاؤل وتوقُّع الأفضل دائما، بالثقة في حدسك، وبرؤية النصف الممتلئ من الكوب دائما
 

في السياق ذاته، تتدخل نظرية "النبوءة ذاتية التحقق" (Self-fulfilling prophecy) التي وضعها عالم الاجتماع الأميركي "روبرت ميرتون" (Robert Merton)، لتضيف تفسيرا جديدا للعبة الحظ. هل تنبأت يوما بشيء ما وتحقق؟ كأن تتنبأ برسوبك في مادة الفيزياء؟ أو أن يفوتك القطار مثلا؟ في الواقع فإن توقُّعك المتشائم في حد ذاته قد يكون السبب في رسوبك أو تفويتك القطار، ربما تسبَّبت توقعاتك في زيادة توترك وعدم تركيزك في إجابة أسئلة الامتحان، أو نسيان ضبط المنبه قبل موعد القطار بوقت كافٍ، لذا فإن تنبؤك بالفشل في حد ذاته كان هو السبب في حدوث الفشل فيما بعد.

الشخص المتفائل يتوقع النجاح في مساعيه حتى لو أشارت كل الظروف إلى عكس ذلك، لكن هذا لا يُثنيه عن بذل جهده كاملا في سبيل تحقيق مسعاه. 

بمد الأمور على استقامتها، فإن توقعاتك لمستقبل مظلم قد يجعل من حاضرك ذاته مظلما، ويمنعك من محاولة تغيير ظروفك للأفضل، بالتالي ستكون النتيجة الحتمية في المستقبل هي فشلك فيما توقعت أن تفشل فيه، فما الفائدة من العمل من أجل مستقبل لا نرى فيه نورا؟ إن كنت تتوقع الفشل في الامتحان، فلماذا تذاكر؟ ولو توقعت أنك ستفشل في علاقاتك العاطفية، فلماذا تبذل جهدا لتحسين نفسك؟ على الجهة الأخرى، فإن الشخص المتفائل يتوقع النجاح في مساعيه حتى لو أشارت كل الظروف إلى عكس ذلك، لكن هذا لا يُثنيه عن بذل جهده كاملا في سبيل تحقيق مسعاه (5).
 

قد يبدو لك المفهوم السحري الشعبي للحظ الجيد مثيرا أكثر من المفهوم العلمي الأكثر واقعية، ولكن الخبر الجيد هنا أن الحظ في حياتك هو أنت وما تفعل، وهذا يعني أنك تستطيع تغيير حظك دون استخدام السحر عن طريق تغيير سلوكك وأفكارك. بمعرفة الصفات التي يتمتع بها المحظوظون، يمكنك السعي لأن تكون واحدا منهم ببذل بعض الجهد لتغيير نظرتك إلى الحياة وإلى نفسك، وتغيير منظورك نحو مسؤوليتك عما يحدث لك. يقول المثل: "المنحوس منحوس ولو علّقوا على راسه فانوس"، ولكن علم النفس يقول إن المنحوس يمكن أن يصبح محظوظا بإرادته، لأن الأمر كله يبدأ هناك، في داخلك.

———————————————————————-

المصدر : الجزيرة