حين تتحول "مياهنا" لمركبة فضائية خارج السيطرة
كتب جهاد الرنتيسي - اتخيلني وجيراني ابطالا في حلقات "بقعة ضوء" او "مرايا" على مسرح شركة "مياهنا" التي تفنن موظفوها على مدى الشهرين الماضيين، وما زالوا يتفننون في اظهار غرائبية العلاقة بين المؤسسة الخدمية والمواطن المفترض تلقيه الخدمة.
يتلقى موظف مركز الشكاوي الاتصالات، يبلغنا انه سجل شكوى، تصلنا على الهواتف رسائل الشكر، نتخيل اننا اصحاب فضل، او ان الشركة موغلة في لباقتها وحرصها على التواصل من اجل ايجاد الحلول للمواطنين ، ونترقب حل المشكلة.
صار لدى كل جار من الجيران قائمة شكر طويلة على هاتفه، تكفي لاستعادة مشهد في فيلم اجنبي ـ تحول الى فيلم عربي فيما بعد ـ ورقة في قنينة، مغلقة بفلينة، تتقاذفها امواج البحر، لتستقر على الشاطئ، مع فارق ان رسالة القنينة في الافلام تثير فضول قارئها، ويبنى عليها سيناريوهات، تنتهي بقصص غرامية، لكن رسائلي وجيراني لا تستحق الاهتمام الكافي لاعادة ضخ المياه، ابسط شروط حياة الكائنات على الكوكب.
حفظ الموظفون عنوان الحارة، وارقام البنايات مع استمرار الاتصالات، صاروا يفاجئوننا بمعرفتهم، واسئلتهم " انتم خلف مشاغل الامن العام" او " انتم سكان العمارة رقم كذا" مما اوصل البعض الى قناعة بان انقطاع المياه لفترات طويلة امر روتيني لا يستحق التنكيد او تعكير المزاج، الشكاوى زائدة عن الحاجة، والقسم المخصص لها بعض ديكور الشركة.
يمل منك الموظف مع كثرة الاتصالات، يحولك الى احدهم، يبدي استغرابه بلغة تمثيلية، ويعدك بان يرسل الشباب، يعيدك انتظارهم الى مناخات مسرحية "في انتظار غودو" الذي لا يأتي.
تظل العدادات في جميع الاحوال جثثا هامدة، كأنها في مدينة مهجورة منذ قرون، او مقاطعة اصابها اشعاع نووي قضى على الحياة فيها، او ساحل ضربه زلزال حوّل شبكة المياه الى حطام ينتظر من يعيد بناءه.
يكتمل المشهد مع صهاريج المياه التي تترك لدى المرء انطباعا بان في الحارة من يصر على الحياة ببضعة دنانير، تهز ميزانيته بعنف، وتنهش من دخله المحدود بين يوم وآخر، واحاديث اصحاب الصهاريج التي لا تبقي سرا مستورا حول جيران يضطرون لتقاسم حمولة الصهريج لملء ارباع خزاناتهم، على امل عودة الضخ الذي يخيب في كل مرة، او لانهم لا يملكون ما يكفي من الامكانيات لاكثر من ذلك.
لا يخلو الامر من سيمفونية مزلاج صندوق عدادات المياه الذي تنام وتصحو على صريره، تبرم الجيران، قلة حيلتهم امام الابواب المقفلة، استعداداتهم لاسبوع اخر بلا مياه، وافقهم المسدود امام الطين والعجين الذي يغلق آذان المسؤولين.
قد يتجاوز الاثر النفسي للجسور المحطمة الاثر المادي، يوصلك الى قناعة بغياب الدولة، توصل غيرك الى الاعتقاد بان قطع المياه متعمد لاجبار المواطن على القبول باتفاقيات مياه مع اسرائل، ويثير الشك بتحرك شركة مياهنا خارج مداراتنا، بلا ضوابط، كمركبة فضائية خارجة عن السيطرة.
يدفعك ذلك للتساؤل حول رد فعل الشركة لو تأخرت عن سداد احدى فواتيرها، التفكير الجدي بتفكيك العدادات والقائها على رصيف مبنى الشركة، او الذهاب الى الدوار الرابع لسؤال الرئيس عن اسباب العقاب الجماعي لمواطنين يسيرون قرب الجدار طلبا للستر، ففي اللامألوف اجابة على اسئلة التراجيديا و الكوميديا السوداء.