أبعد من جمعيات تحفيظ القرآن الكريم

 


تختلف في بلادنا عملية مناهضة المشروع الإسلامي النهضوي، شدة وليونة، توحشا وتساهلا، ومع هذا لا تخطىء العين أن بلادنا العربية والإسلامية غدت جزءا من منظومة معقدة من السلطات الخاضعة كرها أو طوعا لتوجه أو حتى مخطط عالمي، لإبقاء المارد الإسلامي في حالة خمول وخمود وعدم فاعلية، وكلما شعرت هذه المنظومة أن ثمة حركة ما في جسد هذا المارد تشي بصحوته، تستفز كل قوى الدنيا لإعادته إلى حالة "الغيبوبة" ذلك أن صحوته ستعكس حركة دوران الكرة الأرضية بأسرها، وستنقل مركز قيادة العالم فورا إلى هذا الشرق!

الصورة معقدة كثيرا وتفكيكها يحتاج إلى أناة وطول بال، ولكن متى امتلكت "مفتاح" القفل الرئيس للفهم، ستجد أن كل الحلقات المفقودة قد بدت لك، واكتمل المشهد، بل ربما فككت كل الألغاز التي تحيط بنا من كل جانب، ابتداء من عمليات سحق زهرات "الربيع" وصولا إلى تأجيج الصراع السني الشيعي، مرورا بتدمير مرفأ بيروت(!) لصالح مرافىء الكيان الصهيوني، وسلسلة الانقلابات على "شرعية" صناديق الانتخابات (تركيا، مصر، تونس.. مثلا)، وإفقار وتجويع بلاد نفطية غنية (كالعراق والجزائر مثلا!) وزراعة وصناعة حروب عبثية بينية معلنة وسرية، وكل هذا برعاية عنوان كبير يسخر منه كثيرون، رغم أنه غدا واقعا وقحا، هو تسمين "إسرائيل" الكبرى، ومد "نفوذها" ليس إلى ما بين نهري الفرات والنيل فقط، وإدخالها كرها أو طوعا في "أحلاف" عربية عبرية، بل إلى غرف نوم العرب، وتحديد نوعية "أذكار الصباح" المفترض أن يتلوها علماء السلاطين على مسامع شعوبهم!

وكي لا يطلع علينا "أعداء" عقلية المؤامرة بإشهار "الكارت الأحمر" احتجاجا على "شطط!" رؤيتنا، نذكرهم فقط بجملة من الحروب المباشرة وغير المباشرة التي يشنها أكثر من "هولاكو" معاصر على الإسلام والمسلمين، ورموزهم الإيمانية، ابتداء من جمهورية "الحريات" الفرنسية، مرورا باليمين الأوروبي وأحزابه الشيطانية، وصولا إلى الحرب المعلنة التي تشنها حكومات بشكل رسمي على "المسلمين الهنود الغزاة!" والإيغور والروهينجا ومن قبلهم مسلمو البوسنة، وغير هذا كثير من "الآيات الشيطانية" التي تبدو لنا بين حين وآخر، وكلها تستهدف "الإبادة" الجسدية المباشرة والمعنوية غير المباشرة لأنفاس ذلك المارد الذي يخيفهم كلهم!

إذن الأمر ليس متعلقا بعقلية مؤامرة، وصناعة خيوط خطط وبرامج "وهمية" لهجمة شرسة تستهدف "صولجان" الشرق وإبقائه في غمده، بل هي واقع مرير معقد تلتقي على حياكته كل الأطراف "المتضررة من "قيامة" إسلامية شرقية تطارد "العصابة" التي تحكم العالم وتتحكم بمصائر شعوبه، وصولا إلى إعادة ميزان العدل إلى استوائه الذي غاب عن الأرض منذ حكمت العالم ورقة خضراء مزركشة لا تساوي فعلا غير قيمة "الخشب" والحبر الذي تتكون منه، وهي "الدولار" ولكنها في ميزان الفاعلية تمسك برقاب الملايين وترفع وتضع شعوبا ودول!

ولتأكيد "شططنا" هذا، يكفي أن نقارن بين الحرب التي يشنها سدنة "محافل" الغرب وأتباعهم على الدين بمفهومه العام بما في هذا الدين المسيحي (فرض المثلية وتشريعها وقوننتها وتطبيعها في المخيال الجمعي وهدم الأسرة، وحكاية الأم العزباء ووو ..) وبين ما يقوم به كيان العدو الصهيوني الإرهابي من "تسمين" التنظيمات والأحزاب والجماعات اليهودية المتدينة، والسماح بغزوها للجيش وأجهزة الأمن وإمساكها بمفاصل صنع القرار، والسماح لها بفرض رؤيتها على مجمل صورة الكيان وتوجهاته، فهناك حرب على القيم والدين قرآنا كان أو إنجيلا، وهنا صبغ كل شيء بألوان التوراة!

وفي المحصلة، تبدو عملية "استهداف" والتضييق على دور تحفيظ القرآن الكريم في الأردن وفلسطين وغيرهما من البلاد المسلمة، نقطة في بحر "المؤامرة" الكبرى، كي لا يصحو المارد من غيبوبته، بل محاولة قتله إن استطاعوا، وما هم ببالغي هذا الهدف، لأنه يستمد حياته من جهاز تنفس رباني وعد رب العزة أن يبقى يمده بإكسير الحياة (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون/ الحجر 9).

ولعل مفتاح عملية الاستهداف تلك، ما ذكرته الدكتورة سهير السكري اختصاصية اللغات في شريط فيديو منتشر على الشبكة العنكبوتية، أوضحت فيه جملة من الحقائق الغائبة أو المغيبة في هذا الأمر، فقالت أن الطفل الغربي تبلغ حصيلته اللغوية 16000 كلمة وهو في عمر ثلاث سنوات في حين أن الطفل العربي محصور في اللغة العامية وهي لغة الأم في البيت والعامية للأسف الشديد محدودة ومحصلتها 3000 كلمة فقط يتعلمها الطفل، أي أن الفارق بين حصيلة الطفل الغربي والطفل العربي 13000 كلمة لصالح الطفل الغربي، وبالتالي يصبح عقل الطفل العربي يعيش في حدود ضيقة جدا من التحصيل اللغوي وهذه معلومات مفزعة وخطيرة ومعناها أن الأمة ضائعة أو تكاد.

وتستدعي الدكتورة السكري هنا ما ورد في كتاب "الإسلام الثوري" لجيسين إذ يقول أن الإنجليز والفرنسيين عندما انهارت دولة الخلافة وورثوها كمحتلين قاموا مشتركين بعمل دراسة عن سبب قوة الإنسان المسلم والتي مكنت المسلمين من غزو العالم من المحيط الأطلنطي إلى فيينا، فوجدوا أن الطفل المسلم من عمر 3 سنوات إلى 6 سنوات يذهب إلى الكُتاب ويحفظ القرآن الكريم في سن 6 إلى 7 سنوات، ثم يدرس ألفية ابن مالك وهي 1000 بيت شعر والتي بها كل قواعد اللغة العربية الفصحى، إذن الآن لدينا طفل جبار عمره 7 سنوات، ولديه حصيلة لغوية غنية، إضافة لعدد كلمات الألفية لديه عدد كلمات القرآن الكريم وهي سبعة وسبعون ألفا وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة..

لهذا خلص الإنجليز والفرنسيون من هذه الدراسة المشتركة إلى أن سبب قوة الفرد المسلم الجبارة هي القرآن وكتاتيب تحفيظ القرآن، فقامت فرنسا بإلغاء الكتاتيب في أفريقيا وجميع المدارس التي تحت سيطرتها مثل لبنان وسوريا، أما بريطانيا فاستحدثت في البلاد التي انتدبت عليها أو احتلتها بالأصح، نمط المدارس "الحديثة" التي تقبل الأطفال في سن 6 سنوات، وبالتالي أضاعت من الطفل أهم فترة تحصيل في حياته وهي من تاريخ ولادته إلى 12 سنة تقريبا، وعندما يذهب الطفل للمدرسة في عمر 6 سنوات سيتعلم كلمات باللغة العربية الفصيحة وهذا غير ما تعلمه في البيت من كلمات عامية مختلفة تماما عن المدرسة فيجد الطفل نفسه واللغة العربية بالنسبة له عبارة عن لغة غريبة عليه وصعبة التحصيل ويبدأ مرحلة بغض لغته من الصغر. وبالطبع رافق هذا إلغاء نمط التعليم التقليدي القائم على حفظ الأطفال للقرآن الكريم، وهذا ما تفعله جمعية المحافظة على القرآن الكريم، ومثيلاتها في البلاد الإسلامية، وهو إجراء بمثابة انقلاب على الخطط الغربية، وعودة الطفل المسلم إلى أصله، لهذا تجري عملية ملاحقة أصحاب مشروع التعليم الديني، الذين يحاولون الإجهاز على خطط الغرب تلك!

ما يجري أبعد بكثير من محاولات التضييق على مراكز تحفيظ القرآن الكريم، إنه برنامج معقد متشعب ومتوحش، يستهدف في النهاية إبقاء الأمة في حالة سيولة وميوعة تخرجها من عملية صناعة تاريخها المجيد الجديد، الذي بدأت بوادره تلوح في الأفق!


(عربي21)