القيصر الجديد




لا تصبح الدول "عظمى" على نحو مفاجئ، وإنما بعد امتلاكها شروط ومقومات وعناصر القوة الشاملة، ومن ثم انتزاع إقرار الدول الأخرى لها بتلك المكانة. ولكي تأخذ الدولة مكان القطب، لا بد لها قبل ذلك وبعده، أن تمتلك الرغبة والإرادة لتوظيف المقومات التي تتمتع بها للعب أدوار محورية على مستوى العالم.

وتبدو روسيا نموذجا حاضرا بقوة، وتحديدا فيما يتعلق بعامل الإرادة، فرغبتها معلنة للعب دور عالمي، وتتخذ قيادتها خطوات عملية لتحقيق هذا الهدف. وإذا كان مسار الارتقاء إلى مصاف القوى العظمى ليس سهلا على الدول الصاعدة، فإن الأكثر صعوبة وإثارة هو أن تستعيد مكانة الدولة العظمى التي فقدتها بعد عقود قليلة.

فقد كان انهيار الاتحاد السوفييتي المدوي، أحد أكبر التداعيات سلبية على روسيا داخليا وخارجيا؛ فبعد أن كان الروس في ظل النظام الاشتراكي يعانون من الانغلاق السياسي، ويتطلعون بانبهار إلى نمط الحياة الاستهلاكية، والليبرالية الاقتصادية الغربية، اكتشفوا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أن تشوه الهوية الوطنية، والتخلي عن المقومات الذاتية للقوة والحضارة، هي هزائم لا تقل قسوة عن الهزيمة في الحرب الباردة.

عاشت روسيا في العقد الأخير من القرن العشرين حالة من الضعف والهامشية، ولولا نخبة من رجال"الدولة الروسية العميقة"، في المخابرات، والجيش، ومؤسسات الصناعات العسكرية، وأجهزة الأمن، ووزارة الخارجية، وغيرها، لربما كانت روسيا قد تفككت بالفعل.

هذه النخبة التي دفعت بفلاديمير بوتين إلى رئاسة المخابرات، ثم إلى سدة الرئاسة، بعد الإطاحة ببوريس يلتسين نهاية عام 1999. ومن الأصوب القول بوتين وفريقه، مع الاعتراف بالقدرات السياسية والقيادية للرئيس الروسي، ولأن هذا الفريق منسجم، فكريا وسياسيا، فقد بدأوا العمل فور تسلم بوتين للسلطة.

1-على المستوى الاقتصادي، بدأت القيادة الجديدة في إعادة تنظيم الاقتصاد الروسي، وخاصة القطاع الصناعي، وقطاع الصناعات العسكرية، وغيرهما من المنشآت الاقتصادية.

2-اجتماعيا، استندت القيادة الروسية إلى النمو الاقتصادي، وعائدات البترول المرتفعة، لتحسين أوضاع المواطنين الذين أضرتهم إجراءات "العلاج بالصدمة" الغربية، في فترة الانتقال إلى اقتصاد السوق، فتم رفع الأجور والرواتب، وتحسين مستوى الخدمات العامة، ما كان له أثر كبير في رفع مستوى الرضا والروح المعنوية للشعب.

3-عسكريا، أتاح الانتعاش الاقتصادي، إمكانيات كبيرة لإعادة بناء القوات المسلحة وتطوير أسلحتها بصورة شاملة ومتسارعة، فتم تخصيص أموال ضخمة لتوسيع الصناعات العسكرية، وتحديث الأسلحة الاستراتيجية، من طائرات، ورؤوس نووية، وصواريخ، وغيرها، سبقت بها الولايات المتحدة والغرب بسنوات.

ومن المعروف أن السياسة الخارجية للدولة امتداد وانعكاس لأوضاعها الداخلية. وقد نجحت مؤسسات الدولة الروسية ونخبها في تجاوز المأزق الحضاري، وإعادة بناء المقومات المعنوية للدولة، من خلال إحياء الشعور القومي والكرامة الوطنية. كما كان لسياسات وأطراف القوى الأخرى في العالم دور في تهيئة الظروف الملائمة لتلك العودة، حيث لم تتمكن الولايات المتحدة من الاحتفاظ طويلا بموقع القطب الأوحد. وبصعود الصين وعودة روسيا القوية إلى الساحة الدولية، فقدت الولايات المتحدة عمليا وضع القوة العظمى المهيمنة على العالم، ودخل العالم مرحلة التعددية القطبية، خاصة مع اتجاه روسيا والصين لبناء شراكة استراتيجية بينهما لمواجهة القوة الأمريكية، ما يعني فشل التوجه الاستراتيجي الأمريكي المعلن الهادف إلى منع ظهور أية قوى عظمى جديدة.

وهكذا تمكنت روسيا خلال العقدين الماضيين، من:

1-استعادة مكانتها كدولة عظمى.

2-إفشال أكبر تهديد لأمنها القومي، وهو محاولة ضم أوكرانيا إلى "الناتو".

3-احباط محاولات الولايات المتحدة لعزلها وحصارها، وبناء تحالفات وشراكات جديدة من خلال:
•مجموعة البريكس(البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب افريقيا)، وهو نادي مفتوح ومرشح للتوسع.
•منظمة شنغهاي للأمن والتعاون(روسيا، الصين، كازاخستان،قرغيزستان، أوزبكستان، طاجيكستان، الهند، باكستان، وايران).

4-استعادة الجزء الأكبر من نفوذها الدولي، خاصة في "الشرق الأوسط"، ودورها في سوريا، وتطورعلاقاتها بمصر والعراق ودول الخليج. واستخدام القوة ضمن ما اعتبرته ضمن المجالات الحيوية لأمنها القومي،( أوسيتا الجنوبية 2008، وضم شبه جزيرة القرم عام 2014، والحرب الدائرة في أوكرانيا). ودعم دول أمريكا اللاتينية وخاصة فنزويلا، ضد محاولات التدخل والهيمنة الأمريكية عليها.

5-تمكنها من خلال دبلوماسيتها النشطة والمرنة، من تجاوز أزمة إغراق أسواق النفط، من خلال الاتفاق مع السعودية وعدد من دول منظمة أوبك في إطار(أوبك +). وتعد روسيا أكبر منتج، وثاني أكبر مصدر للنفط في العالم، وأكبر منتج ومصدر للغاز.

6-تعزيز وجودها في البحر المتوسط(حميميم، طرطوس)، كممر وحيد للبحر الأسود، حيث توجد أهم الأساطيل الروسية في شبه جزيرة القرم.

7-تتحرك روسيا في إطار دولي مساند لها يتطلع لعالم أكثر توازنا، يأخذ مصالح كل القوى الكبرى في الحسبان، فهناك ما يشبه الحراك العالمي الذي تقوده روسيا، ومجموعة دول منظمة شنغهاي وبريكس، وفي مقدمتها الصين، ضد الهيمنة الأمريكية. انعكس في التخلي عن الدولار في التعاملات التجارية، وتأسيس بنك للتنمية لتمويل المشاريع في الدول الأعضاء، وصندوق للاحتياط النقدي لمواجهة آثار التقلبات في أسواق المال، بهدف تطوير مؤسسات بديلة للبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والنظام الاقتصادي الذي وضعته الولايات المتحدة لدعم هيمنهتا على أوروبا والعالم بعيد الحرب العالمية الثانية.

8-الحفاظ على مكانة متقدمة لروسيا في قمة النظام الدولي "الجديد"، من خلال ما يمكن تسميته "مبدأ بوتين"، وخلاصته توظيف القدرات العسكرية لردع التهديدات المحتملة، وإيجاد واقع جيو سياسي أوروبي وعالمي يفيد روسيا بالدرجة الأولى، أيا كانت الأثمان الاقتصادية التي سيتم تحملها.

في ضوء ما سبق يمكن القول أنّ نظرية "تحول القوة"، ومضمونها فقدان دولة مهيمنة لموقعها القيادي في النظام الدولي القائم لمصلحة دولة أو أكثر قادمة، وتتنامى قوتها بشكل متسارع، ربما تقدم تفسيرا لما تشهده السياسة الخارجية الروسية من تحولات اعتمادا على مقوماتها الداخلية، فإلى جانب كونها دولة ذات موقع استراتيجي، وتراث تاريخي، وحضارة عريقة، فقد نجحت في زمن قياسي من تحقيق انجازات اقتصادية وعسكرية، استندت إليها القيادة الروسية في استعادة دورها العالمي، مستفيدة من التحولات الكبرى التي تمس بنيان النظام الدولي، مع التراجع الأمريكي – الغربي الواضح، وتحول مراكز القوى من الغرب إلى الشرق، في دورة كونية تاريخية حضارية جديدة.