في ذكرى رحيل القائد المثقف شفيق الحوت
في الثاني من آب الماضي حلت الذكرى الـ 13 لرحيل القائد المناضل والأديب والكاتب والسياسي والمثقف الفلسطيني شفيق إبراهيم الحوت أبو هادر المولود في يافا عروس البحر الأبيض المتوسط عام 1932حيث فقدت الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة برحيله واحدا من أبرز قادتها المخلصين الذي غادر الدنيا وهو قابض على جمر مبادئه الفكرية وطهارته النضالية
لا زال الكثيرون يتذكرون بفخار بالغ واكبار مشرف وقفته التاريخية الجريئة في وجه رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية الرئيس الراحل ياسر عرفات وهو يعلن رفضه الصارم والحازم والمطلق لمسار مفاوضات واتفاقيات اوسلو ومشتقاتها التي أسست فيما بعد لقيام سلطة وأجهزة أمنية فلسطينية تقمع المقاومة والشعب وتلغي الحق التاريخي بفلسطين والقدس وقد ظل الحوت ملتزم بحق العودة والمقاومة والعيش بالقرب من مخيمات الفلسطينيين في لبنان مع البسطاء والشرفاء واللاجئين المقهورين والمناضلين الحالمين بالعودة إلى فلسطين وقلبه ينبض بعشقها و الألم واللوعة يعتصرانه على فراق أهلها وبحرها وسحرها وجمالها
شفيق الحوت بقي يكافح بصلابة وقوة حتى رحيله عام 2009 وهو في اشتياق مرير لمسقط راسه مدينة يافا يتذكر شوارعها وبساتينها ومبانيها وينابيعها وسكانها ويتحدث عنها في كل مجلس بأجلال وود ويعترف في حضرتها انا ( لم اخرج يوما من يافا على ظهر السفينة اليونانية دولوريس إلى بيروت الا من اجل ان اعود اليها لأنني لم اخرج منها أصلا ) وانني على امل ان أدفن في مقبرتها ولابد من يافا الروح والقلب ولو طالت الغربة واتسعت دروب الشتات
الراحل الكبير الحوت الملقب بـ ( سنديانة فلسطين والفلسطيني حتى الموت وقلعة الوطن وحصن الفدائيين ) عمل طوال حياته السياسية كقيادي مستقل ذو شخصية قوية وصاحب عقل وحكمة له رؤيته وتحليله وقراءته الخاصة التي ينسج منها موقفه ويعبر عنه بكل صدق و أمانه وجرأة
حيث استطاع بوعي كبير ان يفهم حقائق الصراع مع الاحتلال ويدرك طبيعة المشروع الصهيوني واّثاره على أمتنا العربية وشعوبها وحضارتها ومستقبلها معتبرا أن فلسطين حدودها من البحر إلى النهر ومن الناقورة إلى رفح وهي جزء اصيل من الوطن العربي الكبير وقطعة من ارض الأمة وأنها قضية تاريخ وحضارة وأن الشعب الفلسطيني هو صاحب هذه الأرض وأن نابلس ورام الله وغزة ليست أهم ولا أغلى من عكا وحيفا ويافا واللد والرملة
التحق الحوت مبكرا بالجامعة الأمريكية في بيروت وتخرج منها عام 1953 وعلى مقاعدها الدراسية بدأ عمله الوطني ونضاله الفعلي حيث أسس مؤتمر المشردين الفلسطينيين عبر زياراته للمخيمات يوم كانت الخيام معلمها الوحيد ليجند الطلائع وينظمهم في أطر سياسية تكون قادرة على القيادة وتحمل المسؤوليات وقد دخل السجن جراء ذلك أكثر من مرة ومنع من متابعة دراسته الجامعية لأكثر من عام واستطاع استرداده جنسيتة اللبنانية التي سحبت منه عام 1955( اصله لبناني ) ليواصل نضاله من اجل تحرير فلسطين وطرد الاحتلال
بعد تخرجه من الجامعة عمل مدرسا في مدرسة المقاصد الإسلامية حتى عام 1956ثم انتقل للعمل مدرساً في الكويت عام 1958 عاد بعدها إلى بيروت ليلتحق بالعمل في الصحافة اللبنانية حيث عين مديراً لتحرير مجلة الحوادث اللبنانية وبقي في منصبه حتى عام 1964
في عام 1961 أنشأ مع بعض زملائه جبهة التحرير الفلسطينية وفي عام 1963 صدر أول عدد لدورية الجبهة المعروفة بـ ( طريق العودة ) كما ساهم في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة الراحل أحمد الشقيري في القدس 1964 وأصبح عضوا في لجنتها التنفيذية عام 1966 ومديرا لمكتب المنظمة في لبنان وقد بذل جهود كبيرة لتمتين أواصر العلاقة والاخوة بين المنظمة والحكومة اللبنانية على أسس دبلوماسية أسوة بباقي السفارة العربية
تعرض لعدة محاولات اغتيال أولها كانت في فبراير من عام 1967 أصيب فيها بجروح في ساقه واتهم أحد أجهزة الاستخبارات العربية بتنفيذها وفي عام 1969 م فشل مخطط آخر لاغتياله وهذه المرة على يد أحد القادة الثوريين آنذاك وفي العام نفسه تعرض لمحاولة اغتيال ثالثة حين استهدف مكتبه بعدة صواريخ من قبل عملاء للموساد الاسرائيلي كما علم انه في عام 1974 تعرض أيضا لمحاولة اغتيال أخرى بوضع عبوات ناسفه داخل مكتبه في بيروت
القائد الكبير شفيق الحوت لا يعتبر من أهم رموز الشعب الفلسطيني الوطنية في مسيرته النضالية فحسب بل فوق كل ذلك كان نبراساً وهاجا وثائراً متقدما ومناضلا طليعيا ومفكراً مبدعا وصاحب كلمة شجاعة وهادئة وعاقلة وثورية يتدفق حديثه شفافية ويفيض أحساس بإنسانيته العالية وسجاياه الحميدة وتواضعه الجم
أبا هادر لم يكن في حياته او في التـزامه مجرد شخص عادي اختار طريق الجهاد والنضال والمقاومة بل كان إلى جانب ذلك نموذجـًا بارزًا وقدوة ملهمة لجيل فلسطيني كامل ورث روح مقاومة المحتل منذ اليوم الأول للنكبة كما كان خير من يمثل هذا الجيل في تعبيره عن امانيه وتطلعاته بالبندقية المقاتلة والكلمة الحرة الأبية ما اكتسب قيمته كقائد وكمعلم وكرمز من رموز القضية والوطن
بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982بقي في بيروت ولم يغادرها مع الفدائيين رغم المخاطر التي كانت محدقة به حيث شرع في ترميم مقر مكتب المنظمة في بيروت كي يكون جاهزاً لخدمة أبناء شعبه لكن اجتياح القوات الإسرائيلية لبيروت الغربية بعد اغتيال بشير الجميل في 14 / 9 / 1982 أضطره إلى التخفي والتنقل بين منزل وآخر وكثيرا ما وجد نفسه متشرداً في شوارع بيروت باحثاً عن مكان آمن خشية أن تصطاده عيون المخابرات الإسرائيلية التي كانت تبحث عنه في كل مكان
هنالك أشياء عديدة ميزت حياة المناضل الحوت فهو القيادي الفلسطيني المثقف صاحب الباع الطويل في المعرفة والفكر والصحافة والكتابة وقد أغنت ثقافته وسعه اطلاعه تجربته السياسية ودعمت نضاله الدؤوب ورفدت معركته ضد الاحتلال الصهيوني الإرهابي في كافة المحافل المحلية والإقليمية والدولية حيث لم يكن يوما بوقا لزعيم او تابعا لنظام او أداة سياسية أو بوليسية لمشروع أراد استغلال القضية الفلسطينية أو حرفها عن مسارها النضالي والوطني
في 22 اب 1993 علق الحوت عضويته في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية من خلال بيان صحفي قال فيه ( لم يعد سراً على أحد ما تعاني منه منظمة التحرير الفلسطينية من أزمات سياسية ومالية وتنظيمية تتحمل مسؤوليتها القيادة او ما يسمى باللجنة التنفيذية وباعتباري عضواً في اللجنة التنفيذية
أعترف لكم بأنه لم يعد باستطاعتي وغيري من الزملاء تحمل مسؤولية قرارات تصدر بأسمائنا ودون علمنا بها مما أدى إلى تفريغ هذه المؤسسة الوطنية والتنظيمية من مكانتها وصلاحياتها ) وبعد الإعلان عن اتفاقية أوسلو بشكل رسمي في 13 / 9 / 1993 أعلن استقالته من منصبه ورفض الانضمام إلى السلطة في الداخل والخارج وهجا اتفاق أوسلو وعرى النتائج التي وصل إليها ولم تغره الوعود ولا السلطة ولا الألقاب والمناصب ولم تأخذه في قول كلمة الحق ملائمة لائم
شفيق الحوت قامة وطنية كبيرة كان يمثل الصوت الوطني القوي والمسموع ويجسد الضمير الحي للمقاومة بقربه من الناس وهو يحمل هم الشعب الفلسطيني وقضيته بكل جدارة واقتدار وقد ساهم في اثراء الحركة الثقافية الفلسطينية بتأليفه عدد من الكتب حول القضية الفلسطينية والقومية العربية خلال عمله ممثلاً لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان منذ تأسيسها
كما كان عضواً في المجلس المركزي لحركة فتح والمجلس الوطني الفلسطيني وأحد موقعي إعلان حق العودة عام 2000 وعضو اللجنة التأسيسية لمؤتمر حق العودة المنعقد في لندن عام 2003 كما كان ايضا عنواناً راسخا للصمود الثوري في بيروت وهو يفضح مخططات إجهاض مسيرة الثورة الفلسطينية ويدعم ثوابت المقاومة في نضالها لتحرير كامل التراب الفلسطيني المغتصب
شفيق الحوت يعتبر نموذجاً نضالياً هاماً في التاريخ الفلسطيني المعاصر عاش ومات مناضلا في سبيل الانتصار لمبادئه وحماية الحق الفلسطيني من التفريط والضياع رغم انه اختلف مع القائد ياسر عرفات أبو عمار الا انه بكاه بكل حرارة عند رحيله كان دائماً يقف في صفوف المعارضة ليحمي القضية من أعداء الداخل والخارج حيث شكل حالة فريدة من التوازن النضالي كصاحب رأي مستقيم يحمل على كاهله هموم وطنه وقضية شعبه
انتقل إلى جوار ربه بتاريخ 2/8/2009 ودفن في بيروت عن عمر ناهز السابعة والسبعين في وقت كان ولا زال عصيب القضية والأمة حتى الساعة ليبق عزاء الشرفاء والمناضلين في فقدة الجلل غادر في قمة عطائي شاكرا حامدا مرفوع الهامة مرتاح الضمير لما قدم وأن ما تركه من كلمات وإحداث ومعارف سيظل كنز ثمين ومنبر امين وطريق ثورة ونضال للأجيال القادمة
أخيرا في ذكراه العطرة نقول له ان اشبالك وتلاميذك واحبائك سيواصلون المشوار بالدم والنار والرصاص حتى العودة الى حيث كانت البداية في يافا وعكا وحيفا وصفد وطبريا وكل ارض فلسطين الطهورة وليعلم الجميع ان القادة لا يموتون وان التاريخ لا يندثر سلاماً لروحك الطاهرة
mahdimu.barak@gmail.com