الاتفاق الروسي الصيني وأزمة التضخم الأمريكية
تقاطع المصالح الروسية الصينية: المصالح بأشكالها المختلفة هي المحرّك الحقيقي للصراعات والتحالفات في العالم، في ضوء ذلك تلتقي المصالح الروسية-الصينية اليوم لتتجلى رسميًا على هيئة اتفاقية تتضمن التبادل التجاري بالعملات الوطنية (الروبل واليوان) بدلًا عن الدولار الأمريكي للنفط الروسي والصادرات الصينية من جهة أخرى.
إجراء التبادلات بالعملات الوطنية للدولتين من شأنه رفع الطلب عليها، مما يعني رفع سعر صرفها، وهذا لا يبدو مرغوبًا في بكين التي تفضل تدني سعر صرف يوانها لتعزيز تنافسية صادراتها !
الصين قلقة من موقف الولايات المتحدة والغرب تجاه قضية ضم تايوان للبر الصيني، ولا تريد بكين اليوم أن تفقد مصالح اقتصادية هائلة مع العالم بسبب أية عقوبات ستخضع لها كنتيجة مؤكدة لاجتياح (تايوان/الصين الديمقراطية)، وحتى اللحظة فإن مشروع الصين لهو اقتصادي بامتياز بعيدًا عن أية تداخلات سياسية وعسكرية في المجال الدولي، لكن ذلك سيتبدل بمجرد اقتحام الصين للمجالات الحيوية في العالم والتي قد تحتك بها مع قوى عالمية كالولايات المتحدة وحلفائها من الاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا واليابان.
روسيا تتورط في حرب تطول بدون حسم واضح للأهداف في أوكرانيا، ويبدو أن الغرب يسعى لاستنزاف القوة الروسية هناك حتى آخر جندي أوكراني. فصل الشتاء على وشك الدخول مع شكوك تتنامى حول قدرة أوروبا على تدفئة شعوبها في ظل ارتفاع الأسعار والاعتمادية على غاز ونفط روسيا.
التقت المصالح الروسية-الصينية في ضوء هذه المقدمات؛ فالصين ستحصل على النفط الروسي بمعاملة تفضيلية وستدفع بالروبل الروسي، كما ستستورد روسيا كل شيء ممكن من الصين لتدفع باليوان الصيني، هذا الأمر سيساهم في إقصاء هيمنة الدولار على هيكل الاحتياطيات العالمية وعلى التجارة بين الدولية كعملة تسعير للنفط ولو بشكلٍ محدود نظرًا لبقاء الدولار هو سيد العملات لغالب التداولات والاحتياطيات العالمية.
أزمة التضخم وسعر الفائدة:
تعاني الولايات المتحدة بقسوة من التضخم الذي لم ينتج عن جانب الطلب بمقدار ما نتج عن المعروض النقدي الذي قارب (تريليونين من الدولارات) أثناء تغطية متطلبات الجائحة، وكنتيجة لارتفاع سعر النفط والحبوب والزيوت الغذائية بعد أزمة أوكرانيا. هبط مؤشر التضخم من 9.1% ليصبح 8.5% هذا الشهر، الاحتياطي الأمريكي الاتحادي (FED) يرى في رفع سعر الفائدة الوسيلة الأفضل لكبح التضخم الذي يآكل القوة الشرائية لدخل مواطني الطبقة العاملة والمتوسطة، في ضوء ذلك تم الرفع بشكل قياسي لسعر الفائدة على أدوات الدولار في السوق لأكثر من سبع مرات ليصبح اليوم 2.5% ويخطط لوصوله حتى 3.5% مع العام القادم، وبشهية مفتوحة للمزيد من الزيادات ما دام ذلك لم ينعكس بوضوح على مؤشرات البطالة والركود.
ارتدادات الأزمة عالميًا:
بدأت رؤوس الأموال بالتدفق تجاه السوق الأمريكي طمعًا بعائد أعلى على الاستثمار بالأدوات المالية هناك، وبالتالي اضطرت معظم الدول لمواكبة ذلك برفع سعر الفائدة المحلي للعملة الوطنية على أمل وقف خروج الدولارات منها للسوق الأمريكي، وعلى نية تثبيت سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار، وفي مسعىً لتثبيت سعر المستوردات. دول العالم اليوم ستختار ما بين انهيار سعر صرف عملاتها أو الركود الاقتصادي، ما يبدو راجحًا هو حدوث الأمرين معًا خاصةً بعد تهاوي الجنيه الاسترليني واليورو ومخاوف تعزز الركود مع فصل الشتاء.
الدول النامية تدفع الثمن:
تمتلك الدول الصناعية المتقدمة والديمقراطية الأدوات الكافية لمواجهة هذه الأزمة العالمية؛ فمشكلة الطاقة يمكن حلها بالتوسع في بناء مفاعلات نووية كهربائية، والاستثمار في الهيدروجين، والسيارات الكهربائية وبدائل الطاقة النظيفة كالألواح الشمسية وغيرها من بدائل الوقود الإحفوري، برغم التوجه لاستبدال الغاز والنفط الروسي على المدى الآني من الجزائر وقطر وغيرها من مصدرين.
الدول الفقيرة كدول مقترضة سيترتب عليها دفع فوائد أكبر على ديونها، الأمر الذي سيرهق موازناتها أكثر على هيئة تنامي حصة خدمة الدين من إجمالي الإنفاق العام، كما ستزيد صعوبة الاقتراض في ظل تحرك الأموال للاستثمار بها في السوق الأمريكي ذا العائد الأعلى.
دول العالم النامية والتي يلف معظمها الفساد وسوء الإدارة تقف عاجزةً عن فعل شيء عميق سوى مواكبة رفع سعر الفائدة والترقب لحل الأزمة الأوكرانية، بذات الوقت بدأت معالم انهيار أسعار صرف عملاتها وبدأت تتخوّف من بوادر ركود عالمي واسع سيتعزز مع نهاية هذا العام 2022 الحالي. كل ذلك ينذر بأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية مرشحة للظهور كنتيجة لارتدادات هذه الأزمة العالمية.