أ. د. وليد المعاني يكتب: المجلس الطبي الاردني.. المطلوب المزيد من الصلاحيات وليس سلبها


* دراسة تحليلية للجدل الدائر حول ضرورة تعديل قانون المجلس الطبي الأردني ليسمح لأطباء حصلوا على شهادات في الطب السريري من خارج الأردن بالممارسة الطبية دون التقدم لامتحاناته.

كتب الأستاذ الدكتور وليد المعاني * 

قد لا يعجب هذا المقال الكثيرين وخاصة المنخرطين في العمل النقابي والعمل الحزبي، ولكنها كلمات قلتها سابقا في عام 2003 حين قدمت مشروع المساءلة الطبية عندما كنت وزيرا للصحة في ذلك الوقت في حكومة دولة المهندس علي ابو الراغب، وأكررها اليوم، ومحاولة الاجهاز على المجلس الطبي على أشدها.

وقطعا لن يعجب المقال اولئك الأطباء الذين يريدون استثناءهم من تطبيق قانون المجلس الطبي بحجة الرغبة في العودة لخدمة وطنهم بعد أن بلغوا من العلو في المكانة الطبية واكتسبوا من الخبرات ما مكنهم من الادعاء بالتفوق على الغير، وسيكون -حسب ادعائهم- لهذه العودة الاستثنائية أثر كبير على رفع سوية الرعاية الصحية في الأردن وزيادة قدرته على جذب المرضى من الخارج من خلال السياحة العلاجية وسيفتحون مستشفيات كبرى بما انعم الله عليهم، وكل هذا سيعود على وطننا الحبيب بالخير العميم!.

لنبدأ من آخر ما وصلت له الأمور وهو أن مجلس النواب المحترم سيوافق على كل مواد المشروع كما جاء من الحكومة - مع تعديلات بسيطة مثل العنوان- لا تسمن ولا تغني، ويؤجل المادة الأهم والمثيرة للجدل والتي عدل القانون اساسا من أجلها، وذلك للوصول لتوافق حولها تحت ضغط الوقت وفي دورة استثنائية وذلك بين من قدم القانون المعدل وبين جماهير الأطباء وخبراء الصحة من غيرهم، ومن البديهي ان التوافق هو الوصول لحل وسط بين طرفين. في حالتنا هنا طرف معه قانون يمنع وطرف آخر لا يريد تطبيق القانون عليه ابدا. التوافق سيؤدي لتنازل صاحب القانون عن كم يرضي المُطالب بعدم التطبيق، فالأول خاسر والثاني كسب بمقدار يحقق بطريقة أو اخرى ما طالب به.

ان الدخول في هذا الموضوع الشائك يقتضي البحث عن امثلة قائمة في دول اخرى ومحاولة المقارنة بين ما يجري عندنا وعندهم. وقد ادعي وأقول ان الادارة البريطانية عريقة بحيث لا تترك شاردة او واردة الا واخذتها بعين الاعتبار.

اولا: يوجد في بريطانيا مجلس طبي بريطاني General Medical Council (GMC) وهو معني بتسجيل كل طبيب ممارس ومحاسبته ومراقبته بعد السماح له بالممارسة، وهو من يحاكم الأطباء ويساءلهم ويطلب منهم اثبات نزاهتهم الأخلاقية Probity.
 
ثانيا: وهناك جمعية الأطباء البريطانية British Medical Association (BMA) والتي لا علاقة لها بأي دور من ادوار المجلس الطبي البريطاني المتعلقة بالتسجيل والممارسة والشطب، وتنحصر واجباتها في اصدار المجلات والدعوة للندوات والتعليم. كما تقوم بحل الخلافات الناشئة بين الأطباء والمجلس الطبي، وتستمزج اعضاءها في الخلافات النقابية والإضرابات.

ثالثا: يقوم الاتحاد الوطني للعاملين في الدولة او في الحقل الصحي في بريطانيا National Union for Public Employees (NUPE) مقام النقابة العمالية (المهنية) بالدفاع عن الأطباء (المنضوين تحت مظلته) والمطالبة بتحسين ظروف عملهم ورواتبهم .

رابعا: يقوم في بريطانيا اتحاد الدفاع الطبي Medical Defense Union (MDU) بالدفاع عن الأطباء في حال تمت مساءلتهم.

خامسا: للعاملين في النظام الصحي الوطني في بريطانيا تقاعد محدد وللعاملين في القطاع الخاص تأمينات يقومون بها، وهناك تأمين وطني لكل شخص يود المشاركة فيه، ولا علاقة للجمعية الطبية البريطانية او المجلس الطبي البريطاني علاقة بذلك.
 

سادسا: تقوم نقابة الأطباء الأردنية بكل هذه الأدوار التي ذكرت اعلاه بما فيه دور المجلس الطبي الأردني المتعلق بالتسجيل والشطب من السجل والسماح بالمزاولة والمساءلة.
 

عندما انتشر الطلبة الاردنيون في مشارق الارض ومغاربها لدراسة الطب وعادوا للممارسة في الأردن، لم تكن نقابة الأطباء التي ستعطيهم الترخيص تعرف شيئا عن مستوياتهم ولذلك تم اقرار نظام الفحص الاجمالي لترخيص الاطباء، وهو نظام رقم 51 لعام 1970 صادر بمقتضى المادة 52 من قانون الصحة العامة والمادة 6 من قانون نقابة الأطباء الأردنية، وقد صدر عندما كان المرحوم صبحي أمين عمرو وزيرا للصحة. 

واجه الامتحان مقاومة شديدة. ويقول الدكتور كامل العجلوني في كتابه الموسوعي عن تاريخ الطب في الأردن وفلسطين أن الدكتور وصفي عنبتاوي كتب في حينه في مجلة السماعة أن من لا يريد الامتحان هم غير الواثقين بعلمهم. كما يقول في نفس الكتاب أنه في عام 1980 أجريت دراسات اكاديمية من قبل الدكتور سعد حجازي والدكتور فؤاد الصائغ أثبتت مصداقيته وارتباطه بعلامة الثانوية العامة ارتباطا وثيقا وأن أغلب الراسبين كانوا ممن كانت معدلات التحاقهم بالطب أقل من 75% في الثانوية العامة، ولكنهم وجدوا أن قدرة امتحان القبول الأمريكي على التمييز تفوق هذا الامتحان بمرتين ونصف وأنه بحاجة للتطوير.

عندما أدرك البعض انه ليس بإمكانهم اجتياز الفحص الاجمالي قرروا البقاء في الدول التي تخرجوا منها، ومواصلة التخصص هناك والعودة بعد ذلك للأردن حيث يستطيعون الممارسة دون امتحان اجمالي او غيره فلا يوجد امتحان للاختصاصيين، وهكذا استطاعوا العودة للأردن والممارسة.

يشير الدكتور العجلوني في كتابه المذكور سابقا "لقيام نقابة الأطباء بتشكيل جمعيات اختصاص كانت من أوائلها جمعيات الأطفال والجراحة العامة والأمراض الداخلية بهدف تطوير التخصص و تقييم شهادات الذين يقولون بأنهم اختصاصيون، وعلى الرغم من ذلك لم تتمكن الحكومة أو النقابة من منع من يدعي الاختصاص بممارسته، وقد تنبهت الدولة الاردنية لطريقة تجاوز الامتحان هذه ولذلك تداعت الجهات المعنية في وزارة الصحة والخدمات الطبية الملكية والجامعة الأردنية والنقابة لتأسيس جسم يناط به مهمة التقييم العادل والموضوعي لهؤلاء، وكان مجلس وزراء الصحة العرب عام 1978 في الكويت قد قرر إنشاء الهيئة العليا للتخصصات الطبية فكانت الفرصة سانحة". وتقرر فرض امتحان جديد يخضع له كل اختصاصي عائد من الخارج.

وهكذا أُسْقِط في يد الجميع وأصبحوا خاضعين لامتحان المجلس الطبي الاردني الذي صدر قانونه في عام 1982 في حكومة دولة مضر بدران عندما كان الدكتور زهير ملحس وزيرا للصحة، ويقول الدكتور العجلوني "أنه طبق دون تشدد في فترة انتقالية لغاية عام 1986، وتم اشراك ممتحنين اجانب وعرب من دول عديدة كتبوا تقارير قالت أن تدني نسب النجاح ليست بسبب صعوبة الامتحان وانما لتدني مستوى المتقدمين، وهناك دراسات احصائية منشورة عن نسب نجاح العائدين من تخصصاتهم حسب الدول: الولايات المتحدة الأمريكية 83٪...الخ".

حدث نفس اللغط الذي دار بعد اقرار الفحص الإجمالي للأطباء، بل زاد عنه وهاجمه الكثيرون، غير أن الإصرار الحكومي والنقابي ساعد على تنفيذه.

سار المجلس بصورة جيدة في بداياته، فاللجان قليلة ولا يوجد لجان فرعية، وأعضاء اللجان من الرعيل الأول من كبار الأطباء فلم يعترض عليهم أحد. كان الامتحان جديا وحقيقيا وهذا التاريخ هو الذي أعطى للامتحان هيبته. كثر العائدون الذين هربوا من الفحص الإجمالي لأطباء الامتياز ليقعوا في مصيدة فحص البورد الأردني، فتساقطوا وكثروا، فتنادوا وأصبح لهم ممثلون، وفي غمرة من الديمقراطية صاحبت مجلس 1989 وبعد كثير من الضغوط مارستها مجموعات الأطباء الذين لم يتمكنوا من اجتياز الامتحان لمرات عديدة، وفي عام 1991 استُفتِي ديوانا التشريع والرأي والديوان الخاص بتفسير القوانين اللذان ميزا بين من سبق له الحصول على شهادة اختصاص وبالتالي فهؤلاء يتم تقييمهم ومن ثم الاعتراف بشهاداتهم إن رأت لجنة مختصة ذلك، وبين الأطباء الذين لا يحملون شهادات وبالتالي وجب تحقق عدم أهليتهم وعليهم التقدم للامتحان.

سُمِح لمن حصل على شهادة تخصص من دول ذات مستوى طبي مرتفع أن تجري معادلة لشهادته دون الحاجة لدخول امتحان. لم يَسرِ هذا على كل الدول، فاحتج بعضها دبلوماسيا، فوجد المشرع أن أحسن طريق هو اغلاق الباب ثانية من باب "درء المفاسد".

تم إجراء تعديل للمادة (17أ) عام 2001 في حكومة دولة المهندس على أبو الراغب عندما كان الدكتور فالح الناصر وزيرا للصحة بحيث ألغي نص "الحصول على شهادة اختصاص" ليصبح "تقويم شهادته واجتيازه الامتحان المقرر من المجلس والحصول على شهادة اختصاص ".

أصدرت حكومة دولة الدكتور عدنان بدران قانونا جديدا للمجلس الطبي الأردني في عام 2005 عندما كان المهندس سعيد دروزة وزيرا للصحة، وانيطت بالمجلس مهام عدة:
1- نصت المادة (6و) على أن المجلس يمارس في سبيل تحقيق أهدافه اصدار شهادات اختصاص لمن تتوفر فيه الشروط واجتاز امتحانا عقدته اللجنة المختصة.
2- اشترطت المادة (9ج) شروطا فيمن يستحق أن يكون عضوا فاحصا في اللجنة العلمية المتخصصة.
3- لقد نُص على الامتحان ليكون هو اساس التقويم للمرة الأولى، وهو أمر أنيط باللجنة العلمية المتخصصة، والتي تجريه بعد أن تقوم بتقييم شهادة المتقدم لتقرر أهليته للتقدم للامتحان (مادة10أ5).
4-نصت المادة (16ب) على اعتبار الشهادة الصادرة عن المجلس العربي للاختصاصات الطبية شهادة مهنية عليا كأنها صادرة بموجب احكام هذا القانون.
5- نصت المادة (17أ) على حظر الممارسة الا بعد أن تٌقوّم شهادته وأن يجتاز الامتحان وهما أمران متلازمان لا خيار بينهما.
6- من الواضح أن المجلس بإمكانه إعادة تقييم الاختصاصيين كل خمس سنوات بموجب آليات ليس بينها الامتحان (مادة 18).

إن الأمر لا يتعلق بنصوص في الوقت الحاضر بحيث تحتاج هذه النصوص لتفسير لبس فيها، وإنما بمبدأ عام هام وهو الإجابة على السؤال التالي:
"هل على المجلس الطبي الأردني السماح للأطباء الاختصاصيين بممارسة العمل المهني كاختصاصيين بحسب طريقة واحدة نص عليها قانون 2005 أم بطريقتين كما نص عليهما قانون 1982 وتفسيراته"؟

أولا: إن الأخذ بما ينص عليه قانون 2005 يجبر جميع الأطباء بغض النظر عن مكان تخرجهم أو حملهم لشهادة من عدمه، بالتقدم لامتحان له ضوابط وشروط.

ثانيا: في حين أن العودة لوضع يشبه ما كان عام 1982 سيستثنى أولئك الذين يحصلون على شهادات من خارج الأردن من هذا الامتحان بعد أن تقرر ذلك لجنة، ويبقيه فعليا على الاختصاصيين الذين تخرجهم الجامعات الأردنية واولئك الذين لم توافق اللجنة على الاعتراف بشهاداتهم.

ثالثا: لقد تم التحايل على قانون 2005 - وهي حجة يستخدمها المطالبون بالعودة لقانون 1982- وذلك عن طريق حصول الخريجين المحليين أو حتى المتدربين في دول عربية على شهادة المجلس العربي للاختصاصات الطبية وهي شهادة لا تتميز بصعوبة الحصول عليها، ليتمكنوا من استثناء أنفسهم من التقدم لامتحان المجلس الطبي الأردني.

أود أن أبين هنا:

1- أن إقرار الامتحانات أو وضع الشروط أو تحديد المتطلبات هو أمر سيادي تقره الدولة وتنظر فيه لمصلحتها ومصلحة مواطنيها.
2- إن حصول أي شخص على شهادة من دول خارج الأردن واعتراف المجلس الطبي بهذه الشهادات سيؤدي الى التمييز بين دول واخرى، مما سيوقع الدولة الأردنية في حرج سياسي إن اعترفت بهذه ولم تعترف بتلك وقد تمارس تلك الدول معاملة بالمثل.
3- يجب الغاء مساواة شهادة المجلس العربي للاختصاصات الطبية بشهادة المجلس الطبي الأردني.
4- أن المادة (17أ) هي تنفيذ لأحد أهداف المجلس الواضحة والمنصوص في المادة (6و).

لقد اثيرت نفس القضية المثارة حاليا، وأثارها الأطباء في الولايات المتحدة عام 2010 وبحث مجلس الوزراء الأمر في حينه ورفض الانصياع لطلبات المحتجين وطالبهم بالتقدم للامتحان إن رغبوا بممارسة الطب في الأردن مثلهم مثل أي أردني آخر، مشددا على أن لوزير الصحة الحق في إعطاء تصريح مؤقت ولفترة محددة ولغرض محدد لأي خبير للعمل في المهن الطبية في الأردن.

كان قانون المجلس قاصرا من البداية، وزاد من قصوره تعديلات ادخلت عليه، فمن يسيطر على المجلس وما يدور فيه هو وزير الصحة ونقباء الطب وطب الاسنان ومدير الخدمات الطبية وأمين عام المجلس وأمين عام وزارة الصحة وأحد عمداء كليات الطب وأحد عمداء كليات طب الأسنان وممثل عن جمعية المستشفيات الخاصة، ويُسمِي الوزير أخر ثلاثة من هؤلاء وهو الذي يعين الأمين، فللوزير سلطة لا تضاهى. كان من الواجب على المجلس ان يكون غير تابع لأحد ويديره خبراء مستقلون لا هوى لهم.

انعكس تشكيل المجلس على لجنة الدراسات العليا فيه في السنوات الاخيرة فأصبحت اللجنة تمثل المجلس وتتحدث باسمه وتقع طرفا في الجدال الذي يدور مع اللجان العلمية التي كان اختيارها يتم احيانا بضغوط من اعضاء المجلس او غيرهم، بحيث كانت بعض اللجان وبعض الاعضاء ليس من السوية المطلوبة فانعكس هذا على الامتحان ومصداقيته ومستواه. كان البعض من الممتحنين يمارس تحيزاته المختلفة علنا لمصلحة فلان أو ضد فلان.

كان اختيار الأمناء العامين للمجلس دون قواعد وكان بعضهم يحضر اجتماعات اللجان العلمية وهو ليس عضوا فيها ويتدخل في اعمالها ويؤثر عليها. وكانت الكثير من الأسئلة تتسرب أو تُسَرب لمصلحة فلان او غيره مما ترك انطباعا بعدم المصداقية وسوء الادارة.

لكل ما سبق فإنني أقول إن الحل لا يكون بإلغاء الامتحان والاستجابة للضغوط، ولكن بتصويب مسار المجلس واعطائه الصلاحيات اللازمة لأخذ دوره. يجب على المجلس أن يكون المكان الذي يسجل فيه الأطباء ويسمح لهم بالممارسة من خلاله وتتم مساءلتهم هناك ويشطبوا فيه إن خالفوا القانون الطبي. يجب أن يكون جسما مستقلا بعيدا عن هوى أي كان، يحقق العدالة والمساواة وأن تكون لجانه من الأطباء المشهود لهم بالنزاهة والكفاءة والتميز. ويجب على أي شخص يريد العمل في مهنة الطب في الأردن أن يخضع لقوانينه وألا يحاول استثناء نفسه تحت أي مبرر واستغلال أي ظرف مهما كان. عليه القدوم للأردن والتقدم للامتحان وعدم توجيه الاتهامات لهذا ولذاك. لا أحد يمنع الأطباء العاملين في الخارج من القدوم للأردن فهو يرحب بهم في كل لحظة وقد استثناهم من التقدم للجزء الأول من الامتحان، وهولا يجور عليهم ولكن عليهم التقدم للامتحان.

لقد كنت أظن أن مجلس النواب الموقر سيغتنم هذه الفرصة وفي غمرة توجهنا للإصلاح الإداري ومحاربة الفساد والواسطة، لإصلاح المجلس وليس لسلبه بعضا من صلاحياته تحت ضغط أطباء حاولوا سابقا وفشلوا في الغاء الامتحان عام 2010 وهاهم يجربون حظوظهم مرة أخرى، ولن يتوانوا عن الاستمرار في ذلك لحين تحقيق مبتغاهم في ظل غياب تام لرأي كبار وقدماء الأطباء ووزراء الصحة السابقين الا بعضهم وماعدا بعض الأصوات.


* الكاتب استاذ شرف - الجامعة الأردنية، ووزير أسبق للصحة والتعليم العالي والتربية والتعليم