اوروبا المزدهرة والمرفهة والمتغطرسة، حالة لم تعد قابلة للاستمرار..



لطالما تبوأت اوروبا مركزا متقدما في العالم من حيث الازدهار والثراء وتوافرالمعطيات الحضارية الثابتة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى بدء الحرب بين روسيا واوكرانيا هذا العام. وقد كان للحقبة الاستعمارية دورا كبيرا في تشكل الحالة الاروبية المتفردة حيث شرعت الدول الاروبية الكبرى منذ نهاية القرن التاسع عشر في استعمار الدول في اسيا وافريقيا وامريكا الجنوبية واخذت بالاستفادة الواسعة من موارد هذه الدول لبناء اوروبا القوية والمزدهرة، وكان هذا هو العامل الاول في بناء اوروبا كما نعرفها اليوم.
اما العامل الثاني فكان موارد روسيا الطبيعية الهائلة في مجال الغذاء والطاقة والتي حافظت على الحالة الاروبية المزدهرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا. فخطوط نقل الطاقة الروسية الى مختلف الدول الاروبية من غاز ونفط وفرت مصادر حيوية قليلة التكلفة ورخيصة الثمن مما شجع الاوروبيين على تحويل اغلب المصانع المختلفة الى استخدام الغاز كمصدر الطاقة الاساسي بدلا من الطاقة المستمدة من النفط، هذا طبعا بالاضافة للاستخدام الهائل للغاز الروسي في التدفئة المنزلية.  وهكذا اصبحت اوروبا رهينة لاي تطور سلبي للعلاقة مع روسيا.
من المعلوم ان اوروبا كانت دائما شديدة الحرص على ايقاء العلاقة مع روسيا بافضل احوالها، وكانت امريكا تدعم هذا التوجه مع بعض التحفظات احيانا، الا ان الحال قد تغير بشكل دراماتيكي خلال العقد الماضي حيث برزت الصين كعملاق اقتصادي يسير في مسار تصادمي حتمي مع القوة الاقتصادية الاكبر اي الولايات المتحدة الامريكية، واصبح من المحتم على اوروبا ان تختار اي  من العملاقين، الصيني ام الامريكي سيكون شريك المستقبل.
و جاءت الحرب في اوكرانيا لتفرض قوانينها الخاصة على المعادلة، وشكلت نقطة حاسمة ما سيأتي بعدها يختلف جذريا عما كان قبلها، واصبحت اوروبا امام خيار وحيد وهو تحديد موقفها بوضوح تام، اما ان تقف مع امريكا او مع الطرف الاخر، واختارت الاصطفاف الى الجانب الامريكي في الصراع على اوكرانيا، وهنا بدأت اللعبة الحقيقية الدامية التي ستتحكم في الكثير من التطورات المستقبلية في اوروبا والعالم.
لقد اصبح الان في حكم المؤكد ان مصادر الطاقة الروسية ستتوقف عن تغذية مصادر الحياة وعوامل الثراء في اوروبا وان الشتاء الذي تقف اوروبا الان على ابوابه سيكون شتاء قارسا لا شبيه له منذ مائة عام وان نسبة كبيرة من المصانع العملاقة في طول اوروبا وعرضها ستتوقف عن العمل محدثة معدلات عالية من البطالة واختلالات خطيرة في روافع الامن الاجتماعي، وحتى لو تحولت اورروبا الى استخدام انواع عالية الكلفة من الطاقة  فانها ستجد نفسها امام ارتفاع هائل في اسعار المنتجات الاوروبية مما يحد من الاقبال عليها في مختلف الاسواق التي تباع فيها . اضافة الى الانخفاض المتوقع في مستويات المعيشة في اوروبا والذي من المتوقع انه سيحدث الكثير من الاضطرابات الاجتماعية والتمرد الشعبي ضد النخب السياسية التابعة بطبيعتها لمتطلبات المواقف الامريكية على حساب رفاهية واستقرار الشعوب الاوروبية .. عندها ستجد هذه الشعوب نفسها امام موقف ينتزع منها مصوغات الحالة الحضارية المتفردة وستندم حيث لا ينفع الندم.
أ.د احمد القطامين
qatamin8@hotmail.com