وداعا ابا وضاح..
في رأس تلك الطيران وبطن تلك الوديان ومن بين تضاريس جغرافية شديدة القسوة ولد فتية وفتيات يشقون طريقهم بين أنياب الطبيعة الشحيحة الضنينة، يرعون الأغنام في البطين ويقطعون عشرات الاميال يوميا بلا احذية او زاد، ويفرحون بالتين والعنب فقد كان مغيثهم في تلك الايام القليلة من السنة التي يمضون معظم ايامها على الخبز الذي تخبزه امهم الصابرة الحكيمة والشاي الذي يأتي به ابوهم من دكان فقير في الكرك يقترض منه اهالي قريتهم الى حين دفع رواتبهم من الجيش او الامن او وزارة المعارف او البريد.
كان عادل ابن الحاج عبد الله الحروب الطفل الثالث لوالده ووالدته الحاجة زهوة الكساسبة، بعد عدنان ويسرى، ولكن بكر العائلة عدنان سرعان ما اختطفه الموت في عمر السابعة جراء المرض والفقر وغياب الرعاية الصحية في تلك المراحل الاولى من عمر الدولة حين كانت القرى محرومة من كل الخدمات وكان الحق يؤخذ باليد وكانت الدنيا لا تؤخذ الا غلابا بالنسبة لتلك الاسر التي باتت تعرف اليوم باسم عشائر البرارشة.
الطفل عدنان الفرحة الاولى لتلك الاسرة الفقيرة المحرومة من كل شيء الا الشجاعة والكرامة والجلد والاصرار والكبرياء لفظ انفاسه بين يدي والده وهو يقول: " يابا حبني". وهكذا اصبح الحاج عبد الله ابا عادل، وبات عادل محاطا برعاية شقيقته الكبرى التي لا تفصلها عنه سوى بطن واحدة والتي شهدت فاجعة فقد عدنان، وسرعان ما اضحت الطفلة يسرى اما وصديقة لشقيقها عادل حتى انها كانت تتلقى الضربات والركلات عنه حين يشتد غضب الحاج عبد الله لان عادل لم يكن هميما في المدرسة، بل ان يسرى علمت نفسها القراءة والكتابة كي تنقذ عادل من وجبات الضرب المنتظمة وباتت تحل واجباته المدرسية بالنيابة عنه، وهي واحدة من مفارقات ذلك الزمان فتلك الفتاة المتعطشة للعلم كانت محرومة من المدرسة وذلك الفتى العازف عنه كان مجبرا على الالتحاق بها.
دارت الايام، واشتغل عادل موظفا في البريد لينفق على اسرته التي كانت ترحل شتاء الى القرية وتعود صيفا الى رؤوس الجبال، ونجح الحاج عبد الله في انتزاع منحة لابنه المتفوق رياض لدراسة الطب في اليونان على حساب الجيش العربي، وسرعان ما تمكن الفتى الشجاع المغامر المحب للحياة رياض من الحصول على منح اخرى لباقي اخوانه فريد وتاج الدين وعدنان (سمي عدنان على اسم شقيقه الذي توفي) لدراسة الهندسة في اليونان، وكان اخصائي الجراحة العامة رياض اول طبيب في قرية جوزة القابعة بين جبال الكرك الصخرية الشاهقة والمنسية من كل الحكومات.
لم يرزق عادل بابناء او بنات شأن الكثيرين من أبناء جوزة، وكان يلقب ابا وضاح توقيرا له، وبعدما شق اخوانه طريقهم في الحياة وتدرجوا في مدارج النجاح قرر ان يستكمل دراسته وهو في الثلاثينيات من عمره فدرس الثانوية العامة ثم القانون في جامعة بيروت العربية ثم سافر الى السودان للحصول على الماجستير، ولولا اصابته بجملة من الامراض التي انشبت انيابها في جسده بفعل حياة قاسية لم تظهر له الحنان او العطف في اي يوم لواصل رحلته نحو الدكتوراة.
الاستاذ عادل بات محامي العائلة وحامل لواء قضاياها الكثيرة في المحاكم، ورغم معرفته غير العميقة بالقانون، الا انه كان يربح كل قضاياه بالجلد والاصرار والسؤال والاستقصاء والمتابعة والبحث.. كان حربيا حقيقيا وبريشيا اصيلا، وكان اهم ما يميزه ذلك الجلد العجيب والاصرار الغريب على النجاح والاحساس الدائم بانه سيعيش ابدا.
الحياة الشاقة التي عاشها عادل وهذا الجيل الذي يمثله خلفت اثارها في طباعه، فقد كان عصبيا حاد المزاج سريع الانفعال وكان يخاصم "مراق الطريق"، ولكنه مع ذلك كان يؤدي فرائضه الدينية وواجباته الاجتماعية، وكان رضي الوالدين بارا بأخته، وان كان كثيرا ما يبرع في اغضاب من يحبهم، فالكياسة واللباقة وحلاوة اللسان لم تكن شيئا يمكن له ان يتعلمه في الهيشة.
الاستاذ عادل اجرى عدة عمليات في القلب منها قلب مفتوح وكان يعيش بشريان واحد فقط، يعلم انه يمكن ان ينسد في اي دقيقة، وكان يعاني من سكري وراثي مزمن، ومضى حياته صائما يتصدق ويزكي ويصلي الفجر في المسجد.
كثيرا ما نصحه اشقاؤه باراحة جسده المتعب وتسليم القضايا لغيره من المحامين، ولكنه كان يرفض ويقول:" ساسلمها فقط لروزانا بنت اخوي (ابنتي وابنة د. رياض) بعدما تقسم اليمين، عندها فقط ساتقاعد" .
وواصل عادل الثمانيني القيام بمهامه حتى اخر دقيقة في حياته، غادر جوزة في الكرك بعد صلاة الفجر مستقلا سيارة اجرة الى عمان ليترافع امام قاضي الاستئناف في قضية لموكلين استولى البنك على اراضيهم، ولكن ارادة الله سبقت كل شيء ولفظ المحامي عادل انفاسه الأخيرة في قاعات قصر العدل الذي أمضى فيه ثلثي حياته.
رحمك الله يا ابا وضاح وغفر لنا ولك وطيب ذكرك.. وجعل مثواك الجنة.
انا لله وانا اليه راجعون.