هل أنت ضحية الآخرين، أم ضحية تفكيرك غير الناضج؟

لعلّه يُعجبك أن تقرأ بين الحين والآخر على منصّات التواصل الاجتماعي اقتباسًا يخبركَ بأنّك إنسان جيّد، لم يُقدّره الجميع، أو أن تشارك عبارة تجعلكَ أكثر اطمئنانًا لوضعكَ الحالي، فأولئك الذين رحلوا من حياتك هُم الذين خسروك طبعًا، أمّا أنتَ فلَم تخسر أيّ شيّء، الراحلون هُم الأشرار، والخذلان يأتيك من الجميع، لكنّك أنتَ لا تخذل أحدًا ولا تُسيء إلى أحد. وقد تصادف في حياتكَ أشخاصًا تعرف سوءهم لا ينفكّون عن مشاركة صور وفيديوهات عن الغدر والخيانة وأذى البشر، بالرغم من أنّك تعرف جيدًا أنّهم هُم أنفسهم قد تسبّبوا بإيذاء غيرهم، فهل يَعون ذلك أم أنّهم مَعميّون تمامًا عن رؤية أنفسهم؟ فإذا كان الجميع ضحايا غدر الجميع وأذيّتهم، فمَن المُذنب فينا إذًا؟

 

لا شك أيضًا بأنك قلت لأحدهم يوما ما أن يكفّ عن لعب دور الضحية، أو أنك قرأت رواية أو شاهدت فيلما أو مسلسلا يتماهى أبطاله مع دور الضحية وأثار ذلك استياءك؛ فهم أشخاص يدّعون حدوث كل ما هو سيئ لهم، يفسرون كل حدث على أن المقصود به هو أذيّتهم على الدوام، أشخاص معصومون من الخطأ، وهم ليسوا مسؤولين عما يقومون به بسبب كل الأذية التي تعرضوا لها ومروا بها في ما مضى.

 

من هنا، تنبّه علماء النفس لنمط عامّ في بعض الشخصيات أشبه بأبعاد شخصية تلازم أصحابها، يَرون أنفسهم كضحايا على الدوام، ويُحبّون أن يُعرّفوا أنفسهم وأن يفهموها بوصفهم ضحايا لصدمة نفسية أو لاضّطهاد اجتماعي، بالرغم من جدّية قضايا بعضهم وبالرغم من أنّ جزءًا غير يسيرٍ منهم، هُم ضحايا لاضطّهاد حقيقي، لكن حيرة العلماء كانت باتّخاذ وضعية الضحية لفترة طويلة بعد زوال الاضّطهاد وأحيانًا تبنّي شخصية الضحية من قِبَل أولئك الذين لَم يتعرّضوا لأيّ اضطهاد حقيقي بالأساس.

 

لكن لماذا يثير انزعاجنا تمثّل أحدهم دور الضحية رغم أنه يُفترض بنا التعاطف معه/ـا بدلا من ذلك؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد أولا من إقامة تفريق مهم بين مفهومين: مفهوم الضحية (Victim)، ومفهوم عقلية الضحية (Victimhood Mindset).

 

قبل الشروع بالإجابة عن هذا السؤال، وقبل الدخول في تحليل عقلية الضحايا وجوانبها النفسية بحسب ما يقوله لنا علم النفس وخبراء التحليل النفسي، من الضروري التنويه أنّ هذا المقال لا يهدف هذا المقال أو التقليل من أيّ معاناةٍ مر بها شخص ما، وإنما يهدف إلى محاولة الفهم وفتح نقاش جادّ حول جدوى تبني الثنائيات التي تقسم البشر إلى ضحايا وجلادين، ومدى تأثيراتها على النضج النفسي لدى الأشخاص.

 

علم نفس الضحية
يشير مفهوم الضحية إلى الشخص الذي مارس عليه آخرون مظلمة ما، أما مفهوم عقلية الضحية فهو ميل الشخص إلى رؤية نفسه باعتباره ضحية على الدّوام، أي كأنها تتحول إلى هُويّة، لا إلى حالة مؤقتة متعلقة بحدث ما تعرّض له هذا الشخص. وتشير الأبحاث إلى أنه ليس هنالك تلازم ضروري بين الأمرين، فمن الممكن تطوير عقلية الضحية دون أن يكون الشخص ضحية لأي نوع من أنواع المظالم، كما أنه من الممكن، في المقابل، أن يكون الشخص ضحية بالفعل لمظلمةٍ تعرض لها في الماضي، دون أن يطوّر عقلية الضحية.


 

تقترح بعض الدراسات التي أجراها باحثون في علم النفس أن ميل الشخص إلى رؤية نفسه باعتباره ضحية على الدوام تمثل أحد أهم المؤشرات على امتلاكه/ـا عقلية الضحية. أجرى هؤلاء الباحثون 8 دراسات مختلفة، وقاموا بدراسة واختبار ما أسموه هم بـ"Tendency for Interpersonal Victimhood"، وهو ما يمكن ترجمته للعربية بـ"الميل لتبني دور الضحية في العلاقات الاجتماعية".

 

ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم من أن هذه الدراسات أجريت على المستوى الفردي، فإن بعض المراجعات تقترح وجود كثير من التشابهات والتقاطعات على المستويين الفردي والجمعي، وسنشير إلى ذلك في موضعه. يعرّف هؤلاء الباحثون "المَيل لتبنّي دور الضحية" بأنّه شعور دائم لدى الشخص بكونه ضحية في مختلف أنواع علاقاته وتفاعلاته الاجتماعية، وهو ينطوي على 4 أبعادٍ تثبت وجودها باستمرار لدى من يمتلكون عقلية الضحية، فما هذه الأبعاد؟



البُعد الأوّل:
السعي المستمر من أجل نيل الاعتراف بكون المرء ضحية: يعتبر هذا الأمر، بوجه عام، ردّ فعل نفسيا طبيعيّا لدى من اختبروا صدمة أو تعرضوا لمظلمة ما، إذ إن تعرّضنا للصدمة (Trauma) يهدم افتراضاتنا عن العالم الذي نعيش فيه باعتباره مكانا عادلا وأخلاقيا، ومن ثم فإن نيل الاعتراف بكون الشخص ضحية لمظلمة ما، يساعده على استعادة ثقته باعتقاده بأن هذا العالم مكان منصف وعادل للعيش فيه. كما تظهر الأبحاث بأن رؤية من ارتكبوا المظلمة بحق هذا الشخص يتحملون مسؤولية أفعالهم ويظهرون شعورا بالذنب، هو أمر مهم علاجيا للتعافي من الصدمة أو الأذيّة.

 

البُعد الثاني:
النخبويّة الأخلاقية (Moral Elitism): يرى من يمتلكون عقلية الضحية أنفسهم باعتبارهم متفوقين أخلاقيا على سواهم من الأشخاص، ويتم تطوير هذا النوع من الحس بالنقاء الأخلاقي كنوعٍ من آليات الدفاع النفسي في سبيل حفاظ المرء على صورته عن ذاته باعتبارها صورة إيجابية. وعلى الرغم من أن قسمة العالم إلى نوعين فقط من الأشخاص إما ملائكة وإما شياطين قد يساعد على حماية المرء من المعاناة وحماية تصوراته عن ذاته، فإن ذلك في نهاية المطاف سيمنع النضج النفسي لدى الشخص وتطوير رؤية مركّبة تستوعب الذات والعالم في جميع تعقيداتهما.

 

البُعد الثالث:
قلة التعاطف تجاه الآخرين: يشعر من يمتلكون عقلية الضحية بأنهم ليسوا ملزمين بالتعاطف مع غيرهم، فهم منشغلون إلى حدّ بعيد بمعاناتهم الشخصية إلى درجة تجعلهم يُغفلون ألم ومعاناة الآخرين، حيث تشير الدراسات إلى أن من يمتلكون عقلية الضحية يرون أنهم قد عانوا بما فيه الكفاية بما يعفيهم من مسؤولية الاهتمام والتعاطف مع معاناة غيرهم. وعلى المستوى الجمعي، وجدت الدراسات أن الاهتمام والتركيز الزائد على مظلومية جماعة ما (مثل طائفة أو قبيلة أو غير ذلك) يقلل من احتمال تعاطف أفراد هذه الجماعة مع خصومها وقابليّتها لتحمل الذنب الجماعي لما قامت به من أذية تجاه هؤلاء الخصوم. كما تظهر بعض الدراسات التي أجريت حول ما يسمى بـ"عقلية الضحية التنافسية" أن أفراد الجماعات الذين يخوضون نزاعات عنيفة يميلون إلى تضخيم حجم معاناتهم وتضحياتهم وإلى التقليل من حجم معاناة الآخرين أو حتى إنكارها، وهو ما قد يؤدي إلى ما يسميه الباحثون بـ"أنانية الضحية".

 

البُعد الرابع:
الاستدعاء المستمر لمظالم الماضي: يميل من يمتلكون عقلية الضحية إلى اجترار مظالمهم القديمة والحديث عنها باستمرار بدل البحث عن حلول ممكنة لهذه المظالم؛ ما يقلل فرصة مغفرة ما حدث من خلال زيادة دوافع السعي من أجل الانتقام. وعلى المستوى الجمعي، تميل الجماعات أيضا إلى القيام بالشيء نفسه. على سبيل المثال، فإن المواد التي تتناول محرقة الهولوكوست قد ازداد انتشارها بكثرة في السنوات الأخيرة، في المناهج الدراسية الإسرائيلية كما في الخطابات السياسية. وعلى الرغم من أن الإسرائيليين الحاليين ليسوا ضحايا مباشرين لمحرقة الهولوكوست، فإنهم لا يكفّون عن إثارة الموضوع في كل حين خوفا من أن يتكرر الأمر مرة أخرى. ووفقا لنتائج استبيان أُجري عام 2009 على سكان إسرائيل من البالغين، فإن ما نسبته 98.1% من المشاركين أقرّوا بأن "تذكر محرقة الهولوكوست" يعتبر بالنسبة إليهم قاعدة توجيهية في حياتهم. في الحقيقة، ووفقا لأقوالهم، فإنهم يعتبرون ذلك أهم من "الشعور بكونك جزءا من الشعب اليهودي"، "الشعور بكونك جزءا من المجتمع الإسرائيلي"، "العيش في إسرائيل"، أو حتى "امتلاك عائلة".


 

 

تؤثر العقلية التي يطورّها المرء -أيا كانت- على الطريقة التي يفهم ويتذكر بها المرء الموقف الذي تعرض له. في مقالة له بعنوان "تفكيك عقلية الضحية" يُشير عالم النفس "سكوت كوفمان" إلى وجود 4 انحيازات إدراكية أساسية تميّز ميل الشخص إلى رؤية نفسه باعتباره ضحية، وهي كالتالي:

 

انحياز التفسير (Interpretation Bias)
يميل من يمتلكون عقلية الضحية إلى المبالغة في إعطاء الإهانة الموجهة إليهم حجما أكبر من حجمها الحقيقي، كما يميلون أيضا إلى توقّع أنهم سوف يكونون ضحايا محتملين لمظلمة جديدة في المستقبل. فعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أن أولئك الذين يمتلكون عقلية الضحية يميلون إلى الاعتقاد بأنه لو تم تعيين مدير جديد في مكان عملهم، فإنه سيحاول التقليل من النظر إليهم بعين الاعتبار وسيظهر رغبة أقل في مساعدتهم، حتى قبل أن تتسنى لهم مقابلة هذا المدير الجديد.

 

انحياز عزو الأفعال المؤذية (Attribution of Hurtful Behaviors)
يميل أولئك الذين يمتلكون عقلية الضحية إلى نسبة نوايا سيئة إلى الطرف الذي مارس عليهم مظلمتهم، على الرغم من أنه قد لا يكون ذلك صحيحا، بل من الممكن أن يكون العكس من ذلك تماما هو الصحيح. كما تظهر الدراسات بأن مشاعرهم تجاه المظلمة التي وقعت عليهم تكون أكثر حدة وأطول مدة مقارنة بغيرهم. وعلى المستوى الجمعي، وجدت إحدى الدراسات بأن من ينتمون إلى جماعة مضطهدة من قبل أعداء مختلفين ينظرون إلى الأشخاص من الجماعات المغايرة لهم بأنهم أشخاص عدائيون تجاه جماعتهم، وأنهم يمتلكون نوايا حاقدة تجاههم، خصوصا عندما يتم تذكيرهم بالمظلمة التي أُلحقت بهم تاريخيا.

 

انحياز الذاكرة (Memory Bias)
تظهر ذاكرة الذين يمتلكون عقلية الضحية سهولة أكبر من غيرهم في استرجاع مشاعرهم السلبية، من خلال استعادة كلمات ذات حمولة سلبية، مثل: خيانة، غضب، خيبة أمل… إلخ، بينما لا يتذكرون المشاعر والتجارب الإيجابية بالقدر نفسه. وعلى المستوى الجمعي، فإن الجماعات تظهر ميلا أكبر لتذكر الأحداث التي أثرت بها عاطفيّا، بما في ذلك الأحداث التي وقعت فيها الجماعة ضحية لجماعة أخرى.

 

انحياز المغفرة (Forgiveness Bias)
تظهر الدراسات أن من يمتلكون عقلية الضحية يظهرون ميلا أقل لمسامحة الآخرين إذا قاموا بإهانتهم، كما أنهم بدلا من التجاهل يُظهرون رغبة وميلا أكبر لارتكاب سلوك انتقامي. يقترح الباحثون أن حاجة من يمتلكون عقلية الضحية إلى اعتراف الآخرين بمعاناتهم وكونهم ضحايا يعد واحدا من التفسيرات المحتملة لهذا الانحياز. وعلى المستوى الجمعي، وجدت الأبحاث ارتباطا بين الشعور الجمعي بكون جماعة ما ضحية لمظلمة ما، وبين الميل المتدني للمغفرة والرغبة الكبيرة في الانتقام عند هذه الجماعة.

 

لماذا قد يتبنى الإنسان عقلية الضحية؟


على المستوى الفردي، تلعب العديد من العوامل دورا في صناعة عقلية الضحية، بما فيها كون المرء فعلا ضحية لمظلمة ما، لكن الأبحاث تُظهر أن نمط التعلّق العاطفيّ القلِق (Anxious Attachment Style) يُعتبر عاملا مهما جدا في تطوير عقلية الضحية؛ حيث يعتمد الأفراد ذوو نمط التعلّق العاطفيّ القلِق على قبول الآخرين واعترافهم المستمر بجدارة معاناتهم. ينبع هذا السعي المستمر لكسب اعتراف الآخرين بمعاناتهم من شكوكهم المستمرة حول قيمتهم الاجتماعية.

 

ويفسر الباحثون هذا الارتباط بين نمط التعلّق العاطفيّ القلق وبين امتلاك عقلية الضحية بأن ميل المرء لرؤية نفسه باعتباره ضحية على الدوام يوفر له إطارا يستطيع أن يبني من خلاله علاقاته غير الآمنة (Insecure) مع الآخرين؛ ما يوفّر له فرصة جذب انتباه الآخرين وتعاطفهم، وفي الوقت نفسه يوفّر له ذلك اختبار مشاعره السلبية والتعبير عنها من خلال هذه العلاقات. (للمزيد حول نمط التعلّق العاطفيّ القلِق، انظر هنا)


إعلان


 

أما على المستوى الجمعي، فقد لاحظ الباحثون أن اعتقادات الضحية يمكن اكتسابها كما يمكن اكتساب أي اعتقاد إنسانيّ آخر، ويتم ذلك من خلال عدة وسائل، منها: برامج التعليم، والبرامج التلفزيونية، ووسائل التواصل الاجتماعي. وهكذا يمكن لنا فهم كيف يطوّر الإسرائيليون الذين يعيشون اليوم عقلية الضحية من خلال تبنّيهم سردية محرقة الهولوكوست، على الرغم من أنهم لم يتعرضوا لها بشكل مباشر، وإنما من خلال تلقينهم إيّاها في المدارس والجامعات والخطابات السياسية الإسرائيلية. كما يمكننا كذلك فهم دور بعض السياسات والأطراف السياسية التي تطوّر خطابا كاملا (تحديدا في الغرب) بناء على عقلية الضحية، مثل خطابات سياسات الهوية والصّوابية السياسية وغيرها.

 

هل أنا ضحية؟
من الصعب علينا أحيانا أن نعترف لأنفسنا ولمن حولنا بأنّنا نتصرّف وفقا لعقلية الضحية وأنّنا نرى أنفسنا كذلك، خصوصا أن امتلاكنا لعقلية الضحية يغرقنا في تصوّراتنا الذاتيّة عن أنفسنا وعن العالم من حولنا بما يحجب عنّا حقيقة ما نفعل. لتعرف ما إذا كنت تمتلك عقلية الضحية، اقرأ الجمل الآتية، وقيّم مدى انطباقها عليك:



ولتوضيح طريقة تفكير وسلوك من يمتلكون عقلية الضحية، لنأخذ مثالا عن "نور" وزوجها "أحمد":

نور وأحمد مسافران في نهاية الأسبوع الحالي إلى بلد آخر لأخذ إجازة من العمل. قامت نور بتوضيب جميع حقائب السفر وترتيب باقي الأمور، وطلبت من أحمد فقط أن يحجز سيارة أجرة لتوصلهما إلى المطار. في يوم سفرهما، يذكر أحمد لنور بأنه تبيّن أن الموعد الذي ستصل فيه سيارة الأجرة متأخر جدا، وأن موعد الطائرة سيفوتهما بسبب ذلك. يعتذر أحمد لنور، عن هذه الفوضى، وكثيرًا ما أخبرها بأنّ الأمر قد اختلط عليه وأنّه قد كان مُشتّت الذهن ولم يُدرك الأوقات بطريقة دقيقة فحجز موعدا غير مناسب، وطلب منها أن تتواصل هي مع شركة سيارات الأجرة لتعديل الموعد، لأنه لا يستطيع القيام بذلك نظرا لانشغاله بأمر آخر ملحّ ولا يمكن تأجيله.

 

استشاطت نور غضبا واستاءت كثيرا، وبدلا من أن تهاتف الشركة لتعديل موعد سيارة الأجرة، قررت ألا تفعل شيئا. بقيت نور حتى الساعات الثلاث الباقية قبل وصول سيارة الأجرة تستشيط غضبا وتبني في مخيلتها سرديتها الخاصة عن كونها ضحية لمخططات زوجها للتحكم بها وتخريب عطلتها التي نالتها هي عن استحقاق. من وجهة نظر نور، فإن عدم تغيير أحمد موعد سيارة الأجرة وعدم حجز موعد مناسب منذ البداية هو قرار اتخذه هو للحدّ من سعادتها وقدرتها على نيل ما تريده. تقرر نور المجازفة وانتظار سيارة الأجرة لتأتي في موعدها مع علمها بأن احتمال أن تفوتها الطائرة وتضيع الرحلة التي خططت لها بسبب ذلك هو احتمال كبير، كل ذلك في سبيل أن تحافظ على سرديتها الخاصة بها عن كونها ضحية لقرار زوجها بعدم تغيير موعد سيارة الأجرة.

 

ما الذي لا تستطيع نور إدراكه في هذه القصّة؟

تنبع عقلية الضحية في حالة نور من عدم قدرتها أو من كونها لا تريد أن تتحمل مسؤولية قراراتها واحتياجاتها، فبغض النظر عن القرار السيئ الذي اتخذه زوجها بشأن اختيار موعد غير مناسب أو تغيير الموعد المتأخر لسيارة الأجرة، بدلا من أن تقوم هي بتصحيح ذلك (وهو ما لم يكن ليأخذ منها أكثر من اتصال هاتفي واحد مع شركة سيارات الأجرة)، قررت نور أن تستنفد كامل طاقتها في مناكفة زوجها لأنه (كما تتخيل هي وفقا لسرديتها) أراد أن يمنعها من أن تخرج في عطلة وأن تحصل على ما تريد. فعلى الرغم من أن زوجها لم يتصرف بشكل ملائم، ولم يكن قراره صائبا، فإن عزو هذه النوايا له باعتباره يريد منعها من أن تكون سعيدة ليس سلوكا صائبا أيضا، فهو قد قام بذلك نتيجة خطأ عفويّ لأنه لم يُعطِ اهتماما كافيا للموضوع.


 

 

من عقلية الضحية إلى النماء النفسي
عقلية الضحية

عَود على بدء، النقطة التي يثيرها تارانتينو هي أن تعريف المرء لذاته باعتباره ضحية على الدوام قد يختزل الإنسان إلى ما هو أبسط بكثير من حقيقته. إن بناء تصوراتك عن ذاتك وعن العالم من حولك من خلال حدثٍ ما كنت الضحية فيه، سيمنعك حتما من تجاوز محنتك، والتفكير بشكل سليم بشأن ماضيك ومستقبلك، وتطوير علاقات صحية مع نفسك ومع من حولك.

 

إن خطر عقلية الضحية على المدى البعيد يتمثل في نزع فاعلية الأفراد باعتبارهم أفرادا يتحملون مسؤولية أفعالهم وقادرين على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم واختيار مصائرهم، وليسوا مدفوعين -فقط- بكونهم ضحايا لمظلمة حقيقية أو متخيّلة.

وكما أنه يمكننا اكتساب عقلية الضحية، يمكننا كذلك تطوير عقلية نماء نفسيّ تدفعنا إلى الاستفادة من خبراتنا السابقة، الجيدة منها والسيئة، لنجعل من أنفسنا أشخاصا أفضل، دون الغرق في تصوّر أنفسنا كضحايا لا أكثر، بما يشتمل عليه ذلك من مشاعر سلبية مختلفة.

مما لا يمكن إنكاره أن هناك شرّا في العالم، وهناك أشخاصا يرتكبون المظالم، وهناك ضحايا، ولكن هناك على الجهة الأخرى أيضا خيار فرديّ حرّ نستطيع اتّخاذه بين أن نكون أحرارا ونتجاوز آلامنا ومظلومياتنا نحو فاعليتنا بوصفنا بشرا قادرين، وبين أن نرى أنفسنا كضحايا لا أكثر، نتوسّل الآخرين والنظام -الاجتماعي أو السياسي- القائم لكي يتعامل معنا كضحايا إلى الأبد.

 

 
حدّد ما الذي يهمك وما الذي تريده، وافعل ما بوسعك للحصول عليه. لا تضيّع وقتك في اللوم أو الغضب من أولئك الذين لا يريدون ما تريده أنت، ولا تنتظر من أحد أن يفعل لك ما تريده.

تعلّم قول "لا"
إذا لم تكن تريد القيام بشيءٍ ما، ولست في حاجةٍ للقيام به أصلا، فلا تقم به. تذكر أنك تمتلك احتياجات مثلك مثل غيرك.


توقّف عن لوم الآخرين والحياة
إذا بدأت في حالة من اللوم، سواء لوم نفسك أو حظك أو الآخرين أو الكون، فتوقّف عن ذلك فورا، وحوِّل انتباهك عن هذه الأفكار.

كن واعيا بأسباب شعورك بالعجز
قبل أن تدخل في حالة لوم وبناء سردية جديدة عن كونك ضحية أحدهم، حاول البحث عن منبع شعورك بالعجز الذي يولّد كل هذه السيناريوهات.

كن لطيفا مع نفسك
عندما تبدأ في لوم الحياة أو الآخرين بسبب معاناتك، فأنت في الحقيقة ترهق نفسك بدلا من مساعدتها. بلعبك دور الضحية فأنت تكثّف شعورك بالألم؛ فعندما تتقمص هوية الضحية فأنت الآن لست تعاني فقط بسبب ما حدث لك، وإنما أيضا تعاني لأنك لا تحصل على ما يحصل عليه الآخرون، بسبب سوء حظّك وتآمر الجميع عليك للنيل منك.

ساعد غيرك بلا تمنّن
عندما تمتلك عقلية الضحية، فإنك تتصور العالم بأسره يدور حولك وحول ألمك. تجنّب ذلك. اعترف بمعاناتك بلطفٍ ولين، ثم فكر كيف تستطيع مساعدة إنسان آخر. على الرغم من أن ذلك قد يبدو منافيا للبديهة، فإنه كلما كنت فاقدا للشيء أكثر، احتجت أن تعطيه بشكل أكبر. أن تكون لطيفا مع غيرك هو أفضل ترياق لشعورك بالشّفقة على نفسك.

مارس الحمد والامتنان
عندما تمتلك عقلية الضحية فإن كامل تفكيرك ينصب على معاناتك، تحديدا ما لا تستطيع الحصول عليه. اقلب المعادلة، فكر في شيء يهمك، شيء تستمتع به وتستطيع الحصول عليه. فكر فيما تمتلك بدلا من التفكير فيما لا تمتلك.


اسعَ لتغيير وضعٍ سيئ
شعورك بأنك ضحية يحجب عنك قدرتك على التغيير، فأنت تقنع نفسك بأنك لا تستطيع فعل أي شيء لتغيير ظروفك، في حين أن ذلك ليس صحيحا في معظم الأحيان. فكر فيما تستطيع فعله لتغيير ذلك، حتى لو بدا ذلك مستحيلا لك.

استمع إلى الآخرين بتعاطف
عندما تستمع إلى الآخرين، حاول أن تستمع إليهم بنيّة فهم ما يحاولون قوله. توقف عن التفكير فيما تريد فعله بخصوص ما يقولونه، أو التفكير فيما يعنيه لك ما يقولونه. استمع وحسب.

تعلّم العفو والغفران والتخلّي
عندما تلعب دور الضحية، فإنك تقرر أن تحمل ضغينة وتستشيط غضبا بشأن المظلمة التي وقعت عليك. بدلا من أن تسمّم أفكارك بمحاولة الثأر لنفسك، حاول أن تتفهّم غيرك وتصفح عمّن ظلمك إذا كان ذلك ممكنا.
الجزيرة