لماذا عقدت الحكومة اليابانية التأبين الرسمي لرئيس الوزراء الياباني الراحل شينزو ابي
قررت الحكومة اليابانية اجراء مراسم حفل تأبين لرئيس وزرائها السابق الراحل السيد شينزو ابي ودعت الى هذا الحفل الرسمي كبار القادة من الدول الصديقة لليابان وسوف يشارك الاردن بأعلى ممثل له جلالة الملك عبد الله الثاني في هذه المراسم الرسمية في 27 من شهر ايلول الحالي نظرا لما يكنه الاردن لشعب اليابان وحكومته بشكل عام ولما يحظى به السيد ابي من مكانة شخصية لدى ملك الاردن التي زراها مرتين الاولى في( 17 من كانون ثاني 2015 ) والثانية في ( 30 نيسان 2018)، لدعم الاردن سياسيا واقتصاديا ونبذ الارهاب والتطرف.
وعلى الرغم ان الخبر الرسمي الذي تم تداوله هو مراسم جنازة للرئيس شينزو علما ان الرئيس قد تم دفنه في شهر تموز الماضي إلا انه فعليا لن تكون هنالك جنازة ومراسم دفن انما مراسم حفل تأبين للرئيس ابي تكريما لانجازاته التي قاد بها حكومته اثناء فترة حكمه ويعد اطول رئيس وزراء حكما وقائدا للإصلاح الاقتصادي وصاحب استراتيجة اطلق عليها (ابي نوميكس) نسبته اليه. والتي عمدت الى زيادة الموازنة مع اعادة الهيكلة لخلق مصادر جديدة للنمو والليونة في الانفاق واغراق السوق بالنقد وذلك عن طريق زيادة في الضريبة واستغلالها للإنفاق لدعم الاسر والتركيز على الاطفال نظرا لانخفاض معدل الولادة في اليابان وتشجيع دور الحضانة وجعل اماكن العمل اكثر موائمة للاباء ورفع مساهمة الضمان الاجتماعي الذي اخذ بالتراجع وتجاوز طاقته .
والسيد ابي حكم من خلال الحزب الذي ينتمي اليه (الحزب الديمقراطي الليبرالي وهو الحزب الحاكم) والتي استمرت الى ما يقارب من ثمان سنوات .
والتاريخ الياباني الحديث لم يشهد اي مراسم رسمية لشخصية قيادية بمنصب رئيس وزراء الا جنازة السيد شيغيه اورا يوشيدا الذي حكم بعد وثيقة الاستسلام اليابانية وهزيمتها في الحرب العالمية الثانية في الفترة بين 1946-1947 و للمرة الثانية بين 1948 – 1954 ويعتبر اول رئيس ينتخب بعد الحرب ويمنح كافة الصلاحيات التي كان يتمتع بها الامبراطور هيروهيتو واستلم السيد يوشيدا دفة الحكم بخلفية دبلوماسية محضة اذا خدم قبل ذلك سفيرا في كل من المملكة المتحدة وايطاليا وساعدته هذه الخلفية على الحكم بتأني ويعتبر السيد يوشيدا بحق من ساهم في استعادة اليابان الى مكانتها الاقتصادية وانتشالها من براثن الهزيمة والدمار وفتح صفحة جديدة نحو الازدهار الحقيقي للاقتصاد الياباني وحول مكانة اليابان من دولة مهزومة الى دولة قوية متناسيا أي احقاد على خلفية الحرب.
ما قام به السيد يوشيدا في الفترة بعد الهزيمة من اجراءات تعتبر بحق ابداع يدرس في الاقتصاد لا يزال يدرس الى وقتنا الحاضر وبما يعرف (بمبدا يوشيدا) ، فما هو مبدأ يوشيدا. حسب المادة التاسعة من الدستور الياباني نصت على ( يتطلع الشعب الياباني بصدق وإخلاص إلى السلام العالمي القائم على أسس من العدل والنظام، ويتخلى إلى الأبد عن الحرب كحق سيادي للدولة وعن القيام بأية أعمال عدوان أو تهديد بواسطة العنف كوسيلة لحل النزاعات الدولية ومن أجل تحقيق الغاية من البند السابق، لا يتم امتلاك قوات برية أو بحرية أو جوية أو غيرها من القوات العسكرية، ولا تعترف الدولة بحقها في خوض الحروب) الذي اعلن البدء بالعمل بمواد الدستور في ايار 1947 وقد جرد الدستور حسب مواده من المادة 1 الى المادة 8 كافة الصلاحيات الممنوحة للامبراطور ليصبح فقط منصب شرفي ورمز للدولة وأنيطت هذه الصلاحيات برئيس الوزراء الذي يتم انتخابه بحكومة حزبية والذي كان اول من استلم هذه المهام السيد يوشيدا.
قام السيد يوشيدا بطي صفحة الماضي وانهاء عهد الحروب والتطلع نحو بناء اقتصاد ياباني قوي وذلك عن طريق تبني فكر ان مصالح الدولة تتطلب العمل الدبلوماسي والابتعاد عن لغة القوة وفتل العضلات التي قد تؤدي الى نتائج سريعة لكن بعد خسائر بشرية مالية ، وكما هو معروف ان الدبلوماسية ابعد عن العدوانية واقرب الى العقلانية واصحاب نفس طويل للوصول الى الاهداف المرجوة والبحث عن الحلول الامثل وهذا ما سعى اليه السيد يوشيدا. اذا استغل الوجود العسكري الامريكي حسب نص المادة 9 لحماية اليابان موجها فكره نحو تنمية اقتصادية وتسخير كافة الاموال نحو بناء اقتصاد على انقاض الحرب التي دمرت كل شي وبقفزة سريعة دون الاهتمام نحو تطوير او استعادة الجيش لقوته في ظروف جيوسياسية متلاطمة حول اليابان تحيط به من جميع الجهات فترك هذه المهمة للجيش الامريكي حتى لا يستنزف الموارد المالية المطلوبة للدفاع وبناء جيش متطلعا الى بناء اقتصاد جديد ونجح مبدأ يوشيدا في تحقيق نموًا اقتصاديًا واضحا داخليا وخارجيا في سنوات الحرب الباردة، مع احتفاظها بمستوى أدنى من قدرة عسكرية للدفاع عن النفس فقط –جيش الدفاع الذاتي- . واعتمد يوشيدا على الشركات المحلية دون السماح للاجنبية بدخول السوق ووضع قوانين حماية صارمة اي ان اليابان نمت اقتصاديا ذاتيا صاغت خلاله اليابان نظاما جديدا معقدا للشركات نفذته الحكومة والايدي العاملة في الشركات مبنيا على التعاون والثقة .
وللعودة الى مراسم تأبين شينزو ابي نلاحظ شبه شديد بين عهد يوشيدا وابي كلاهما سعى الى انقاذ اليابان من براتن الركود الاقتصادي ، كلاهما دفاعا عن مبادئ الدستور السيد يوشيدا نفذ المادة التاسعة ودافع عنها واتهم بالخيانة والولاء للمستعمر من قبل احزاب المعارضة ، وشينزو ابي حاول تعديل الدستور لاستعادة دور الجيش الياباني بعد التهديدات العسكرية من الدول المجاورة وأيضا على تقوية التحالف الأميركي-الياباني نفس مبدأ يوشيدا حتى انه سعى الى بناء علاقة شخصية وثيقة مع الرئيس الامريكي السابق ترامب ولعب وسيط سياسي في صنع السلام اينما ظهرت اضطرابات سياسية ، وحافظ على هدوئه السياسي عندما حدثت مشاكل مع الجارة كوريا الجنوبية والصين مشكلة النزاع على جرز سينكاكو وجزر تاكيشيما وابتعد كليا عن أي قرار سلبي كاد ان يدخل اليابان في صراع عسكري .
وكما شهد عهد يوشيدا بنمو اقتصادي اشبه بالمعجزة لصعود نجم اليابان من انقاض حرب ضروس حافظ شينزو ابي على وضع اقتصادي مستقر رغم الظروف الاقتصادية العالمية التي تأثرت بها معظم الدول بعد جائحة كورونا . وأخيرا امتاز حكم شينزو ابي ويوشيدا بأنهما الاطول حكما كرؤساء للوزراء.
كما كرمت اليابان السيد يوشيدا لانجازاته الاقتصادية تكرم اليابان اليوم شينزو ابي على انجازاته السياسية الخارجية وانقاذ الاقتصاد من الانهيار . واليابان اليوم في تكريمها للرئيس ابي تظهر للعالم ان الدول تحترم ابنائها المخلصين الذين ضحوا في سبيل تحقيق انجازات صنعوها لاوطانهم ورسالة قوية ان اغتيال السيد ابي لم تثني اليابان عن عزمها بالمضي نحو الاستقرار السياسي والاقتصادي وان مبادئ السيد ابي ستبقى ماثلة للعيان ودرس يحتذى به لتبقى ذكرى مراسم التأبين الرسمية التي تكفلت الحكومة بتحمل كافة نفقاتها التي تبلغ 12 مليون دولارا من الموازنة الطارئة لتبقى ذكرى يتغنى بها الشعب الياباني بعظمة قادته بتسطير هذه الاحتفالية بمشاركة اصدقاء وأحباء السيد ابي الذين يكنون له الاحترام والحزن لما فقده العالم من قائد يتمتع بشعبية محلية ودولية حاول ارساء قواعد السلام والازدهار لبلاده.
ان من احبهم السيد ابي ومن احبوه حضروا اليوم للقول ستبقى ذكراك وانجازاتك صفحة في ذاكرة تاريخ العظماء والأوفياء والمخلصين دوما لأوطانهم .
* الكاتب رئيس الجمعية الاكاديمية الاردنية اليابانية