تصدير التضخم وسلوك القطيع
لم يخطر في بال المتابعين يوما أن تتحول الولايات المتحدة إلى دولة مصدرة للتضخم، وأن تجر بسياساتها النقدية المتشددة العالم إلى مزيد من الديون والأعباء الاقتصادية.
الإشكالية هنا أن استمرار النظام المالي العالمي في صيغته القديمة بعد معاهدة برتن وودز أصبح عبئا وخصوصا على البلدان الناشئة والنامية التي ترتبط في فلك الدولار الأمريكي، فحين تمطر السماء في واشنطن علينا حمل مظلاتنا في عواصم بعيدة عنها بآلاف الأميال.
وفي الوقت الذي يولي فيه مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) أهمية كبرى لوقف ارتفاع الأسعار عبر تشديد السياسة النقدية ورفع الفائدة بشكل متسارع للجم التضخم ، تتنامى قوة الدولار أمام بقية العملات التي تتساقط أسعار صرفها بقوة، تماما مثل سقوط الورق الذابل عن الأشجار في خريف مفاجئ وعاصف لم يكن بالحسبان.
الأسئلة التي تطرح نفسها، ما ذنب دول تبعد عن أمريكا آلاف الأميال أن تكتوي بنار سياسات "الاحتياطي الفيدرالي" المحلية؟ وهل تستطيع البنوك المركزية العالمية فعليا أن تتلافى الضربات النقدية المتلاحقة للفيدرالي دون أضرار ؟ وما هي السيناريوهات المحتملة لمنع التضخم المستورد طالما أن معظم الدول مجبرة على اقتفاء أثر الولايات المتحدة في رفع الفائدة؟
المفارقة هنا أن عدم التناغم مع السياسة النقدية الأمريكية المغرقة في محليتها يعزز "الدولرة" في بلداننا ويدعم هروب رأس المال المستثمر إلى أدوات الدخل الثابت وسوق السندات طويلة الأجل التي تضمن عائدا جيدا بدلا من المخاطرة في أسواق أو عملات لم تعد ملاذا آمنا.
ما تقوم به البنوك المركزية من قرارات في رفع أسعار الفائدة أشبه بسلوك القطيع، لأن قرارات الاحتياطي الفيدرالي تضيف أعباء مالية واقتصادية طارئة على دول لا تشبه الحالة الأمريكية، وتنذر بتنامي مشكلات الدين وفائدة الدين، وهو ما يعني حتما أننا أمام سيناريو حدوث انهيارات اقتصادية هائلة، تمتد من سوق صرف العملات إلى الإقراض والائتمان وثم إلى سوق العقارات والرهون ، وأخيرا إلى سوق السيولة مع ارتفاع فاتورة الاستيراد وتكاليف أسعار الأغذية وتدني القوة الشرائية والاستهلاك.
مخاطر حدوث ركود اقتصادي قائمة، حيث يؤكد صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير أن ثلث اقتصادات العالم ماضية نحو الركود خلال العام الجاري أو المقبل ، حيث لا تزال حالة الضبابية وعدم التيقن عالية ، والخوف هنا أن تعود السياسات النقدية المتشددة بآثار عكسية مثل بروز موجة خامسة من أزمة الديون العالمية ، وهو أمر غير مستبعد ، ومن الممكن أن نشهد حالات إفلاس دول مع التخلف عن السداد.
الخلاصة: السياسات النقدية الأمريكية قد تكون صائبة لحلحلة مشاكل الاقتصاد الأمريكي ، لكنها ضارة لبقية اقتصادات العالم التي ستضطر إلى تقليص الإنفاق على التنمية لصالح دفع فاتورة استهلاك عالية ، فرضتها الحرب الروسية الأوكرانية وحالة التأزم والاستقطاب الحاصلة ..علينا الاعتراف والحديث بلا مواربة إن سياسات "الفيدرالي" تتسم بالانانية ولا تراعي احتياجات العالم وخصوصياته ومستقبله الاقتصادي، وعلينا تعلم الدرس بأن الوصاية المالية التي فرضتها "برتن وودز" على العالم منذ عام 1944 أصبحت نقمة وليست نعمة ومكلفة جدا.
النظام السياسي العالمي يحتاج لإعادة توصيف عندما تضع الحرب أوزارها، كما هو الحال للنظام المالي والنقدي الذي أصبح غير مناسب لتحديات المرحلة وتحدياتها بعيدا عن تجاذبات القوى المتناحرة وسلوكياتها.