"شدوا بعضكم".. صوت برائحة ياسمين نابلس
عمرها أكبر من عمر دولة الاحتلال، وتجاعيد وجهها أقدم من تاريخهم الذي يريدون لصقه بفلسطين.. يداها خارطة طريق للوحدة الوطنية، فيما تفوح رائحة حجارة وياسمين القدس من بين نبرات صوتها الحزين المكسور.
يكاد المطر الذي تساقط بفرح طفولي على طرقات أحياء نابلس وجنين والقدس؛ أن يغني معها تلك المقطوعة من التراث الفلسطيني:
شدوا بعضكم يا أهل فلسطين
شدوا بعضكم
ما ودعتكم
رحلت فلسطين
ما ودعتكم
عَ ورق صيني لاكتب بالحبر
عَ ورق صيني
يا فلسطين
عَ اللي جرى لك يا فلسطين
عَ اللي جرى لك
النظرة والابتسامة الطيبة الخجولة، والجمال الذي غطته السنين الطويلة، بتجاعيد رقيقة تشبه طيف الحبيب حين يمر في مخيلة عاشق قتله الوجد والشوق.
الصدفة وحدها جعلت منها نجمة مواقع التواصل الاجتماعي، وبشكل خاص "تيك توك" و"فيسبوك".
فالسيدة المسنة، ولا نقول العجوز، رغم سنوات عمرها الطويل، تبدو بعنفوان شابة يافعة لا تزال تلقي الحجارة على عربات العدو العسكرية، التي تمر من الأحياء الفلسطينية، أو على معابر التفتيش والقهر.
مقابلة عابرة أجراها معها موقع تراثي فلسطيني، وكادت أن تمر هذه المقابلة مرور الكرام؛ الذين حين يمرون لا يشعر بهم أحد، فإذا بصوتها ببحته العذبة، وتناغم دقاته، وفهمها العفوي الدقيق لكل نغمة وحرف شدت به وطرزت به آذاننا؛ يأسر قلوب الفلسطينيين والعرب على امتداد مساحة منصات التواصل الاجتماعي.
وحين تروي لنا زفة العروس، وتشرح بشكل بسيط وسلسل بعض تفاصيل هذا التراث، تتبسم ضاحكة كما لو كانت غابة من الياسمين ضربتها ريح الصباح الخفيفة؛ فأسقطت أوراقها التي فاحت رائحتها في كل مكان.
وقبل أن تغني على نحو يأسر القلوب والعقول؛ تتحدث بألم وحسرة، وقد حاولت مقاومة دمعة كادت أن تسقط على تجاعيد وجهها الجميل، تقول: "وهل هناك مثل فلسطين؟".
وحتى تحبس الدمعة تغني بلهجة فلسطينية قروية:
ما ابعد طريقه يمه الجسر
ما ابعد طريقه
ينشف ريقه نتنياهو.. ينشف ريقه..
المرارة تخرج من صوتها، وهي السيدة التي سرق الاحتلال أرضها وصادرها، كما سرق باقي فلسطين، ورغم محنتها الشخصية؛ فهي غنت وأنشدت للوحدة الوطنية، تريد من الفلسطينيين أن يتوحدوا من جديد، وأن ينزلوا جميعا إلى خندق المقاومة.
وبدت بطولات "عرين الأسود" في نابلس وكأنها أشعلت في صوتها الرغبة في أن ترى البنادق من جديد؛ تتحد وتتوجه بوصلتها نحو العدو، وأن يكون صوت الرصاص الرد الوحيد على ما يتعرض له المسجد الأقصى كل يوم من انتهاكات وتدنيس وتدمير لتراثه وتاريخه وقدسيته.
صوت قادم من بعيد.. من الماضي، يهز مشاعر الاشتياق إلى فلسطين، وبيارات برتقال يافا، وعنب الخليل، وأصوات الموج التي تضرب شواطئ حيفا وعكا.
صوت يدعونا إلى إزاحة الغشاوة التي غطت على قلوبنا وعلى أسماعنا، وإلى أن نطرد من بيننا طيور الظلام وخفافيش العتمة، وأن نترك النور والضوء يمران بلطف ورقة إلى قلوبنا، في مسيرة وطنية يقف فيها الجميع صفا واحدا، في مواجهة قوى الظلام التي تريد محو الوجود الفلسطيني ليس من فلسطين فقط وإنما من خارطة البشرية.
صوتك أمي، كان برميل بارود انفجر دفعة واحدة، وأيقظنا من سباتنا العميق، وأخجلنا؛ لأننا لا نزال نعيش مرحلة داحس والغبراء، وحرب البسوس، بينما العدو على مرمى حجر، وعلى مدى رصاصة، كأن صوتك هزنا من كهفنا ودعانا إلى الخروج إلى ساحة المعركة يدا واحدة.
كيف يمكن لصوت متعب ورزين ورقيق ودافئ؛ أن يصبح حديث الناس ويوقظهم من غفلتهم؟
تلك هي فلسطين..
قدس برس