قيادات التعليم العالي وتحديات المستقبل



إن التعليم العالي يحتل أهمية كبيرة، فهو ضمان الأمن الوطني وأساس التطور والنهضة و محور التغيير والتنوير وصحة البناء الإجتماعي والثقافي، ويساهم في تحقيق التنمية المستدامة. ولكن ولعدة أسباب ذاتية وغير ذاتية تراجع التعليم في الأردن والوطن العربي بشكل عام بالرغم من كثرة الإستراتيجيات والخطط التي تكفل تطورها وتقدمها، ولكن ولسوء الحظ لم يكن لها أثرا ملموسا، الأمر الذي أكدته نتائج الترتيب والتصنيف العالمية الموثوق بها وبخاصة تصنيف شانغهاي، هذا التصنيف الذي حافظ على سويته ومصداقيته والذي تديره وتتبناه منظمة مستقلة لتحليل معلومات التعليم ونتائجه ولا ترتبط بأي جامعات أو وكالات حكومية، فهي جهة مستقلة إستقلالا كبيرا، الأمر الذي يجعل من تقاريرها والنتائج التي تصدرها الأقرب إلى الصواب وواقع الحال.

ويقوم هذا التصنيف على عدة مؤشرات موضوعية لتصنيف الجامعات والذي يأخذ بعين الإعتبار بالدرجة الأولى الحوافز التي يحصل عليها أعضاء هيئة التدريس والإستشهادات والأداء الأكاديمي الفردي والنشر الموثوق في دوريات مفهرسة، وكذلك النشر في مجلة العلوم والطبيعة، وتراعي المعايير أيضا سوية الخريجين وإنجازاتهم وحصولهم على جوائز وميدليات عالمية. وفي تصنيف عام 2022 حصلت فقط أربع جامعات سعودية وواحدة مصرية على تقييم ضمن أفضل 500 جامعة في العالم. ولا بد من التنويه أنه لأول مرة تصنف الجامعة الأردنية من ضمن (701 – 800) على العالم، وهذا إنجاز كبير للجامعة يستحق كل من عمل بها إلى التقدير والإحترام.

ومن المعلوم أن هناك تحديات يواجهها التعليم العربي يحده من الإرتقاء والمنافسة، وهنا يأتي دور وأهمية قيادات التعليم العالي في الجامعات والمعاهد والكليات والمسؤوليات المناطة بهم لإحداث التغيير، فهم المعنيون بالدرجة الأولى في تطبيق وتنفيذ الإستراتيجيات وترجمتها على أرض الواقع إلى تغيير إيجابي وإنجازات بكل أشكالها، وهذا يقودنا إلى أهمية وكيفية إختيار القيادات التعليمية في الأردن ومعظم الدول العربية والذي عادة ما يأتي بقرارات مركزية من الحكومات أو من أصحاب النفوذ دون دراسة جادة للمهارات القيادية التي تخلق الجو الأكاديمي ويجعل المؤسسة خلية نحل لجميع منتسبيها من أعضاء هيئة تدريس وموظفين وطلبة وحتى المجتمع المحلي تتم مساهمته بوتيرة داعمة ومنسجمة.

إن القيادات الأكاديمية لمؤسسات التعليم تشمل كافة كافة المناصب الإدارية ذات الإختصاص الأكاديمي ويشمل ذلك الرؤساء والعمداء ورؤساء الأقسام ورؤساء المجالس الأكاديمية وشؤون الطلبة.

وحتى يتسنى لهذه القيادات أداء دورها يتوجب أولا إختيارها بشكل صحيح بعيد عن الجهوية والطائفية والعشائرية والجغرافيا، وأن يتوفر لديها المهارات والقدرات العلمية والفنية والإنسانية والتصورية العالية بالإضافة إلى تبني الديمقراطية والتشاركية والحماس والتفاعل والإنسجام التنظيمي، وكذك يجب أن تتوفر في القيادات مهارات صنع القرار وبناء الفريق وقيادة المجموع وإدارة الإجتماعات ومهارات التحرك والعالمية والتمتع بالأناقة والإستقامة والأمانة.

إن القرار السليم في اختيار القيادات التعليمية الموسومة بالخصائص والصفات السالفة الذكر تعتبر الخطوة الأولى في إصلاح التعليم العالي ووضع الجامعات على الطريق الصحيح في التطور والتميز.

وعلى القيادات المختارة بعناية تنفيذ كامل المهام على أكمل وجه في وضع وتحديد رؤية المؤسسة وتعزيز العدالة والنزاهة والمتابعة الفعلية لكافة الإجراءات والسياسات والقرارات وتحويل أهدافها إلى مخرجات ونتائج وإنجازات والقدرة على التعامل مع المتغيرات، بالإضافة إلى تحفيز أعضاء هيئة التدريس والموظفين لتحقيق الأهداف، وأيضا دعم عناصر الإدارة الأربعة من تخطيط وتنظيم وتوجيه وتقويم. وكذلك بتنفيذ وظائف الجامعة الأساسية من تدريس وبحث علمي ومسؤولية مجتمعية إلى جانب مهارة إدارة موارد المؤسسة والقدرة على إدارة الأزمات.

وعلى القيادات التعليمية إدراك التحديات التي يواجهها التعليم العالي وإداراتها المختلفة وخصوصا الماثلة بالتشريعات الناظمة لمؤسسات التعليم العالي من قبل إدارات التعليم العالي وعدم تجاوبها وانسجامها مع تحديات الواقع والمستقبل حيث بالوصاية التامة في اختيار التخصصصات والمناهج والمقررات وتعيين الأساتذة وبخاصة من الخارج، الأمر الذي لا يحقق الإستقلالية الأكاديمية للمؤسسة والذي يعتبر أمرا ضروريا للتطور والتميز.

كما أن زيادة الطلب على التعليم العالي وازدياد عدد المؤؤسات التعليمية يعتبر تحديا كبيرا أمام القيادات الجامعية والتي تخلق حالة من التنافسية على جذب الطلبة في ظل ضعف التقنيات الحديثة في التدريس وإدارة المؤسسات بالإضافة إلى تسارع التطور المعرفي والتكنولوجي متزامنا مع ضعف التمويل الحكومي والخاص، الأمر الذي يضعف القيادات الجامعية بتحقيق الأهداف المنشودة من الجودة التعليمية والبحثية والمشاركة في المسؤولية المجتمعية، ويدفع هذه القيادات بالبحث عن مصادر تمويلية مستدامة وغير تقليدية.

كما أن معايير التصنيف وقوائم الترتيب للجامعات أصبحت تحديا محرجا للقيادات التعليمية، فجملة أدائهم تنعكس على أداء المؤؤسات والذي يظهر في نتائج التصنيف والترتيب العالمي.

كما أن ظهور مفهوم القائد الدولي الذي يتميز بالكفاءة والديناميكية والتواصل الداخلي والخارجي والقدرة على التشبيك المحلي والإقليمي والدولي يعتبر تحديا لكافة القيادات التعليمية وللمؤسسات التي تدار من قبلهم.

يعتبر التعليم عبر الحدود والذي فرض نفسه في السنوات الأخيرة تحديا حقيقيا للمؤسسات التعليمية حيث يشهد التعليم في الألفية الثالثة تغيرات غير مسبوقة كتزايد الحراك الأكاديمي للطلاب والأساتذة والبرامج التعليمية عبر الحدود في ظل تجسيد مفهوم العولمة والتدويل وتنوع أنماط وأساليب تكنولوجيا التعليم الحديثة والتعلم مدى الحياة والتعليم المستمر.

إن مجمل هذه التحديات تحتاج لخارطة طريق شاملة وكاملة للحصول على النتائج المرجوة بكفاءة ودون أي انتقاص وملخصها التالي:
أولا: منح المؤسسات التعليمية الإستقلالية الأكاديمية وإطلاق سراح أيدي القيادات التعليمية لتعمل بحرية ضمن التوجهات الوطنية.
ثانيا: إعادة النظر في امتحان الثانوية العامة وأسس القبول الجامعي بحيث يتضمن لامتحان القبول الجامعي معاييرا تضمن الجدارة والكفاءة والعدالة والشفافية والمساواة.
ثالثا: تنظيم دورات تدريبية وورش عمل للقيادات الجامعية وأعضاء هيئة التدريس والموظفين في مجال الإدارة والتكنولوجيا والتواصل وريادة الأعمال والإبتكار وإدارة الجودة الشاملة.
رابعا: تطوير البرامج الحالية واستحداث تخصصات جديدة تتواءم مع مستقبل التعليم والتطور الكبير في مجال التقنية وتضمينها المهارات العلمية ومهارات التواصل والقيادة والمسؤولية المجتمعية والريادة والإبتكار ودمج التعليم الإلكتروني كجزء أساسي في العملية التعليمية.
خامسا: توفير البنية التحتية لمؤسسات التعليم العالي من مرافق وإمكانات تكنولوجية تواكب متطلبات المستقبل في الإدارة وطرق التدريس الحديثة والتواصل.
سادسا: الإهتمام ببرامج ريادة الأعمال والإبتكار وحاضنات الأعمال لدعم المبتكرين وتحفيزهم على تحويل الأفكار إلى شركات ناشئة تساهم في الإقتصاد الوطني.
سابعا: إشراك مؤسسات المجتمع المدني والقطاعين العام والخاص في فعاليات ونشاطات مؤسسات التعليم الحكومية والخاصة للإستفادة وتبادل الخبرات.
ثامنا: إنشاء مراكز تصميم المحتوى الإلكتروني يشارك فيه أعضاء هيئة التدريس في كافة الكليات إضافة إلى إشراك المؤسسات ذات الصلة وخلق الفرق الفنية المتخصصة لبناء المحتوى العلمي من خبراء في كل مادة وخبراء في التصميم التعليمي وخبرات في الحاسوب وتقنية الإعلام المتعدد والرسوم.
تاسعا: توفير البنية التحتية لمراكز البحوث الأساسية والتطبيقية وربطها مع المراكز البحثية المحلية والإقليمية والعالمية.
عاشرا: إبرام اتفاقيات التعاون والتشارك بين مؤسسات التعليم العالي في البرامج المختلفة محليا وإقليميا وعالميا، والعمل على نجاح التدويل بين مؤسسات التعليم العالي.

الخلاصة:

إن مستقبل التعليم العالي في الأردن والوطن العربي مرهون أولا بإرادة جادة في وضع التشريعات التي تتواءم مع متطلبات المستقبل ومنح المؤسسات الإستقلالية الأكاديمية الحقيقية وإطلاق سراحها في التحديث والتجديد وثانيا بالإختبار السليم للقيادات الجامعية من قبل إدارات التعليم العالي واعتماد الكفاءة والمهارة واستبعاد معايير الجهوية والعشائرية والمناطقية والمعرفة الشخصية، حيث أن مواجهة تحديات المستقبل والإرتقاء بالمؤسسات التعليمية يحتاج إلى قيادة استشرافية تتمتع بالقدرة والمهارات العلمية والتشاركية والتصويرية ولديها القدرة على صناعة القرار وتكوين فرق العمل وإدارتها بكفاءة لتحويل الأحلام والأهداف إلى مخرجات ونتائج وإنجازات تدعم الإقتصاد الوطني وتحقق التنمية المستدامة.