المستفيدون والخاسرون من رفع الفائدة




مرة تلو أخرى يضع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي البنوك المركزية العالمية في ورطة رفع الفائدة، فلا خيارات لديها سوى مجاراة السياسة النقدية للولايات المتحدة حتى لو كانت المسايرة على حساب اقتصاداتها.

ورغم اختلاف الدورة الاقتصادية ومستويات التضخم تبدو دولنا العربية المرتبطة بالدولار في موقف لا تحسد عليه، فلا يمكنها المجازفة بسياسة مستقلة عن الفيدرالي، وهذا يعني حرفيا أن قرارها النقدي ليس بيدها فاتباع سياسة مغايرة ستؤدي إلى التحول نحو الدولرة ، وغياب استقرار العملات المحلية.

لقد ضاق العالم ذرعا بمسايرة "الفيدرالي" الأمريكي، الذي رفع الأسبوع الماضي سعر الفائدة للمرة الرابعة على التوالي بمقدار 75 نقطة أساس لاعتبارات خاصة تتعلق بالتضخم الذي بلغ أعلى مستوى منذ 40 عاما قرب 8.2% ، حيث يتوقع أن يكبح القرار السيولة في الأسواق ويعزز قوة الدولار ، لكن الزيادات المتتالية لمعدلات الفائدة لها ما لها وعليها ما عليها وقد تؤدي في نهاية المطاف إلى تباطؤ عجلة الاقتصاد الأمريكي ودفعه إلى ركود محقق .

الحديث هنا عن فائدة بحدود 4 % وربما تصل إلى 5% يعني فرملة حقيقية لحركة أسواق المال وإدخال العالم في آتون مشاكل اقتصادية ذات مسارات متشابكة ومعقدة.

الأسئلة المطروحة حاليا في الأسواق، إلى أي مدى سيرفع الاحتياطي الفيدرالي معدلات الفائدة وهل ستصاب أسواق الإقراض بالشلل؟ ومن سيدفع فاتورة ارتفاع الأسعار المتتالي؟ ومن هم الرابحون والخاسرون من قرارات رفع الفائدة؟

بداية ، علينا التأكيد أن سياسات الفيدرالي برفع الفائدة متأخرة نوعا ما وجاءت كردة فعل للسياسة الأمريكية عموما التي جلبت التضخم إلى المستهلك ، لأن ارتفاعات الأسعار جاءت انعكاسا لظروف داخلية وخارجية ساهمت الولايات المتحدة في خلقها سواء فيما يتعلق تداعيات الحرب في أوكرانيا وقبلها الحرب التجارية مع الصين ونزاع الصلب وانسداد الأفق السياسي في بقاع ونقاط توتر مؤثرة في العالم ، وجاءت الجائحة لتخلق واقعا اقتصاديا جديدا ثم تحولت أنظار العالم إلى أزمة لوجستية للتجارة العالمية وتأثر سلاسل الامداد بالتوترات الجيوسياسية، وخصوصا الاغذية الأساسية مما دفع الأسعار الى مستويات قياسية تاريخية يصعب التكهن بمواعيد تراجعها.

صانع السياسة النقدية الأمريكي تأخر أيضا في التعامل مع بدايات ارتفاع التضخم، وبقيت سياسات التحفيز الكمي لفترة طويلة تغرق الأسواق بالسيولة والدولارات التي يجري طباعتها دون حساب، وتبع هذه السياسة بيع الاحتياطي الفيدرالي أجزاء ضخمة من محفظته من السندات، مما ساهم في استنزاف السيولة من النظام المالي.

في عجالة هناك رابحون وخاسرون من رفع الفائدة، فسوق الرهن العقاري، تتأثر بشدة بارتفاع الفائدة ومن ثم تكلفة التمويل ، ونتحدث هنا عن ارتفاع أسعار المساكن وخنق حركة الشراء لأن تكلفة تمويل شراء منزل أصبحت أغلى ، ما سيؤدي إلى ركود في سوق الإسكان، ولهذا ليس غريبا ارتفاع معدلات الرهن العقاري في الولايات المتحدة بأسرع وتيرة على الإطلاق ، حيث بلغت أعلى مستوياتها في 20 عاما .

أسواق الاقتراض إذا في وضع سيء وخصوصا الدول المستدينة التي ستجد نفسها أمام أزمة اقتصادية مستوردة وارتفاع تكاليف خدمة الدين الى مستويات قياسية، وزيادة فاتورة الاقتراض تهدد كثير من الدول بأزمات اجتماعية نظرا لتردي الأوضاع المعيشية وقيمة العملات وكذلك تراجع الانفاق الرأسمالي لتعزيز التنمية ، وفي خلاصة الأمر ستدفع كثير من الدول النامية والفقيرة الى الارتماء في أحضان صندوق النقد الدولي بشروطه الإصلاحية والسياسية المتعددة ذات المساس بالسيادة.

أما المقترضون من الافراد أو حتى الشركات من أصحاب القروض بفائدة متغيرة سيجدون أنفسهم أمام قيم اقراض جديدة لم تكن بالحسبان ، فسوق الائتمان تتأثر بشدة بتقلبات الفائدة ، لذلك لا غرابة أن تتزايد حالات التخلف عن السداد وزيادة مخصصات الديون المعدومة.

في المقابل سيجد المودعون أو المدخرون في رفع الفائدة فرصة سانحة للحصول على عائد جيد وفائدة مجزية، لكن الاستفادة من عائد يفوق 5 % على الادخار لن يشعر به أصحاب الودائع بالمعنى الحقيقي نظرا لوجود فاتورة تضخم عالية.

المستثمرون في أسواق الأسهم سيكونون أمام تكلفة تمويل وتسهيلات مصرفية أعلى مما يقلل حركة أسواق المال ويقلل جاذبيتها كمصدر استثمار آمن، فيما تبدو الاستثمارات في السندات والاستثمارات ذات الدخل الثابت أكثر أمانا واستدامة.

الخطوة الذكية المرتقبة من الفيدرالي في ديسمبر يجب أن تراعي عدم ادخال الاقتصاد الأمريكي في ركود طويل الأمد ، لأن ذلك يلقي بظلاله على الاقتصاد العالمي والدول النامية والناشئة ، وهذا يعني التفكير بإبطاء وتيرة رفع الفائدة والتحول العكسي نحو خفضها لتنشيط الحركة الاقتصادية وأسواق المال ، وبقاء أسعار الفائدة مرتفعة لفترة أكبر لن تكون خبرا سارا للشركات التي ستتأثر أرباحها والطلب على منتجاتها بمعدلات السيولة الشحيحة .. الأسواق يجب أن تقول كلمتها لصانع السياسة النقدية المتواري خلف شاشات التضخم.