"أم قيس" حاضرة الأمم والتاريخ يتوارى عنها الأردنيون
مرح يوسف -
"ما بنشوف حدا بفوت علينا." قالتها أم محمد وهي تشكو قلّة عدد زوار مطبخها. وتراقب بحسرة الطريق من شرفة منزلها المطل على متحف المدينة القديمة في "أم قيس".
أم محمد التي كانت تعد عشرات الأطباق من المنتوجات المحلية كالفول والبامية والفاصوليا وال"جعدة" لزوار المدينة، باتت تفتقد اليوم زحمة المستمتعين بأطباقها.
"أنا يعني ساكن ببلد أم قيس إللي هي كل الاردن بتقول عنها بلد السياحة وبلد المأكولات"، تضيف أم محمد.
أم محمد في منزلها الفسيح، تخصص غرفة بجلسة عربية للزوار الذين يفاجئونها عادة جائعين منهكين من يوم قضوه في مسارات أم قيس الخضراء. زوجها يشاركها إعداد طبق الغداء لعائلتهما المكونة من 8 أفراد والتي تشاركه بإعالتهم من مدخول مطبخها المتواضع. أم محمد تجاوزت الأربعين عامًا، وتخشى اليوم أنها قد تخسر استثمارها بسبب تراجع الإقبال على مدينتها.
أم قيس شمال الأردن ميزها التاريخ بموقع جغرافي لا مثيل له، تطل باستعلاء على بحيرة طبريا، ومنها تلامس فلسطين وسوريا وتطلع إلى قمم جبل الشيخ اللبنانية، البيضاء طوال العام.
تراقب أم محمد الأثار من مطبخها الذي تعبق فيه رائحة التوابل الشعبية وتستكمل حديثها "مش عارف شو بدي أحكي، بالمرة، يعني مظلومة هاي البلد". في مواجهة المطبخ ترتفع أعمدة وواجهات بيوت جدارا أو أم قيس او كما يقولها أهلها "مكيس"، هذا المدينة التي ما تزال تعج بالحياة، تتابعت عليها حضارات عديدة وهي إحدى مدن الديكابوليس اليونانية- الرومانية العشر كما أسماها الرومان- ويضم الحلف كلا من جراسا و فيلادلفيا وجدارا وبيلا وأبيلا ودايون وهيبوس وسكيثوبوليس ودمشق وكناثا.
شهد الأردن نموا في النشاط السياحي داخل المواقع الأثرية قبل جائحة كورونا، إلا أن منطقة أم قيس لم ينلها نصيب من ذلك.
تكشف إحصاءات وزارة السياحة عن تراجع أعداد زائري منطقة أم قيس في الفترة بين عام 2017 و2019 إلى النصف، في الوقت الذي شهدت فيه البلاد تزايدا في أعداد السياح الوافدين إلى المواقع الأثرية بمقدار 70 في المائة.
ويُظهر تحليل بيانات وزارة السياحة الأردنية للأعوام 2017-2019 أن انخفاض أعداد السياح في "أم قيس" نجم عن تراجع السياحة الداخلية الموجهة إلى المنطقة، والتي انخفضت إلى نحو 80 في المائة في تلك الفترة.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل سددت جائحة كورونا ضربة قاسية للسياحة في المنطقة الأثرية، إذ تراجع عدد السياح الأجانب الوافدين إليها منذ عام 2020 ، فمقابل كل 100 سائح كان يزور المنطقة في عام 2019، لم يزرها سوى 14 العام الماضي .
بُني المتحف نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وهو يقع فوق مرتفع الأكروبولس مدينة جدارا القديمة (أم قيس)، ويخص البناء عائلة فالح الروسان
حال أم محمد كحال باقي سكان " أم قيس" ممن يعتاشون من الخدمات المقدمة للسياح إذ أثر تراجع السياحة في المنطقة على عملهم.
توضح مديرة مشروع المسح الأثري في أم قيس كلاوديا بوهريج Claudia Bührig أن مدينة أم قيس الأثرية تحمل أهمية خاصة، فهي تشكل واحدة من القيم التاريخية للمنطقة ففيها آثار من الحقبة الهيلينية والرومانية إلى جانب آثار سكانية تمثل بداية الأردن المعاصر.
تقول بوهريج وهي مدير معهد الآثار الألماني في عمان : "لدينا معالم وآثار على رأس التلة وسور القلعة الهيلينية ايضاً، أنت فعليًا في وسط التاريخ".
في متحف أم قيس الأثري جلس أحمد العمري منتظرا تلقي اتصال يطلب خدماته في قيادة مجموعة سياحية تبحث عن دليل يرافقها ليكشف لهم أسرار "أم قيس" وقصص أعمدتها الشاهقة.
أحمد العمري يعمل دليلا سياحيا في متحف أم قيس، تمر ساعات دون أن يرى سائحا. يجلس في المتحف متأملا أن يتلقى اتصالًا يطلب خدماته في قيادة مجموعة سياحية تبحث عن دليل يرافقها ليكشف لهم أسرار المدينة وأعمدتها الشاهقة.
المتحف الذي يعود إلى أواخر الفترة العثمانية يحتوي على آثار أبرزها الضريح المنقوش عليه عبارة للشاعر الروماني " أيها المار من هنا؛ كما أنت الآن كنت أنا، وكما أنا الآن ستكون أنت، فتمتع بالحياة لأنك فان" .تتردد معاني القصيدة بين صدى أصوات الزوار القلائل ولغاتهم المختلفة . أحمد يأمل أن يعج المتحف بالزائرين مثلما يستحق.
إلى جانب عمله كدليل للآثار، يعمل العمري مرشدا للمجموعات السياحية في دروب "أم قيس" حيث ينقل لهم تاريخ ومعلومات المنطقة بينما يسيرون في المرتفعات والسهول. نرافقه في جولته ونترك له دفة الكلام.
تواجه " أم قيس" جملة من التحديات التي لا تقف عند تراجع السياحة. فبحسب العمري، زائرو أم قيس لا يقضون وقتا طويلا في المكان مما يحرم أبناء أم قيس من الاستفادة بشكل حقيقي من مجيء السياح الذين وإن حضروا سرعان ما يرحلون "مافي فائدة بترجع لأهل المنطقة بالبرامج هاي لأنه السائح بيجي ساعة على أم قيس يزور المكان وبروح".
يعزو العمري قصر الزيارة لمحدودية أماكن الإقامة في المدينة، لافتا إلى ضرورة العمل على تحسين البنية التحتية وتنظيم الأنشطة لزيادة أعداد السياح، ووضع لافتات في أماكن واضحة لتسهيل الوصول إلى الموقع، إذ يصعب الاعتماد على تطبيقات الخرائط فهي تقدم معلومات غير دقيقة حول الطرق المؤدية إلى المدينة الأثرية، حسب ما أوضح.
في زاوية في مقهاه الخاوي وقف صالح الروسان (28 عامًا) يعد فنجان قهوة. منذ أربع سنوات ونيف أسس الروسان مقهى في "الحارة الفوقا" رغم أنه درس هندسة الكهرباء إلا أنه لم يجد عملا مناسبا فتوجه لإنشاء مشروعه الخاص.
يقع المقهى علـى بعد أمتار من متحف أم قيس. كان صالح يحلم أن يستقطب مقهاه الزائرين إلا أن قربه من المكان الذي كان يوما مزدحماً لم يشفع له كما يحلم، يقف صالح اليوم في مقهاه الذي يبدو خاويًا إلا من بضع مقاعد خشبية.
علاوة على قلة الوافدين وقصر إقامة الزوار في المنطقة، يتأثر عمل صالح حسب الموسم. يشير صالح إلى أن عدد السياح يتراجع بشكل كبير في فصل الشتاء، على نحو لا يمكنه من تغطية نفقات محله الصغير.
و يقول:"أهل أم قيس مهمشين سياحيًا. الطريق إليها سيء والخدمات فيها مش ولا بد مثل المناطق الثانية".
**
تعاني منطقة أم قيس من قلة عدد المنشآت السياحية المؤهلة لخدمة السياح وتقديم خدمات متنوعة لهم. خصوصاً أن المنطقة ليست غنية فقط بالآثار، لكنها غنية أيضًا بتنوعها البيئي الذي يتضمن حقولا زراعية متنوعة وسدودا عديدة أبرزها سد وادي العرب وسياحة دينية "مغارة المسيح" التي لجأ لها المسيح ومهبط طائرات ملكي لكبار الزوار.
لم يكن من السهل حصر أعداد أماكن المبيت في ام قيس كون بعض الأماكن تغلق وتعيد فتح أبوابها أكثر من مرة والبعض الآخر موجود على الخريطة لكن كان من الصعب الوصول إلى ملاكها
قدِمت منار عصام من عَمّان لزيارة أم قيس لتناول الطعام في المطعم الأشهر فيها، وتقول منار باستغراب "توقعت الأعداد أكثر من هيك في أم قيس خصوصي إحنا بعطلة نهاية أسبوع". وتفاجأت منار بضعف التعريف عن إمكانيات المدينة فهي لم تكن تعلم بوجود مشاريع صغيرة لأهل المنطقة أو مطابخ إنتاجية.
كلام منار عن ضعف الترويج لأم قيس يتلاءم مع أرقام موازنة دائرة الآثار التي تكشف عن تراجع كبير في الميزانية المرصودة لترميم وتعمير آثار "أم قيس" للفترة 2012-2017، في حين لا تظهر أية مخصصات لهذا البند بعد تلك الفترة.
في عام 2018 استبدلت دائرة الآثار العامة البند الخاص بترميم وصيانة أم قيس إلى بند ينص على ترميم وصيانة آثار إربد دون تقديم أي تفاصيل،
تقدمت معدة القصة بطلب حق الحصول على معلومة إلى دائرة الآثار العامة لمعرفة حصة منطقة أم قيس في الإنفاق الموجه للمواقع الأثرية في محافظة إربد منذ عام 2018، إلا أن دائرة الآثار رفضت الإفصاح عن أي بيانات بهذا الشأن.
أما نادية الخوالدية، وهي سائحة عُمانية زارت أم قيس أكثر من مرة، جلست تستمتع بسحر المكان، حيث تطل المنطقة الأثرية على هضبة الجولان وبحيرة طبريا. تعرفت ناديا إلى المدينة عندما زارتها للمرة الأولى عام 2006.وهي ترى أن الموقع شهد تطورًا واضحًا خلال السنوات الاخيرة إلا أنه ما زال بحاجة إلى المزيد من الخدمات.
" إجيت 4 مرات لكن ما في مرشد سياحي يستقبلني." وتضيف " لو في مرشد ومنشورات تعريفية اشياء تعرّف أكثر على المنطقة وعلى الخدمات الموجودة فيها لكن ينقصها من يطلعنا على الاجزاء الي فيها".
تقول الخبيرة الألمانية كلاوديا بوهريج Claudia Bührig أم قيس هي "تاريخ الأردن والمنطقة معاً"، وتقول يجب أن تملك الأجيال الجديدة فهمًا عما تراه، ويجب أن نقوم بحماية ما يرونه.
** أنتجت هذه القصة بالتعاون مع أريج للصحافة الاستقصائية وبدعم من سفارة مملكة هولندا في الأردن- مشروع 100واط
* صور أسفل المساحة الإعلانية..