وصفي التل.. الرجل الذي هزم خصومه من القبر



كتب اللواء متقاعد محمد البدارين - 

قبل أن يصل إلى الحكم بسنوات طويلة، تمكن وصفي التل من بناء شخصيته وفكره وارائه ومواقفه بطريقةٍ مختلفة جداً عن السائد والمعتاد، فانفرد عن أبناء جيله في الأردن والعالم العربي، الذين سيتحول معظمهم في وقت مبكر إلى خصوم سياسيين، ومن المؤكد أنه لم يكن له أي صديق مقرب جدا طوال حياته، وسنلاحظ إنه تعمد قبل أن يعرفه الجمهور، أن يختار مكان سكنه الدائم على هضبة بعيدة عن كل المدن والقرى، في إشارةٍ مملؤة بالمعاني التي ربما لم يكن يفهمها سوى زوجته إبنة مدينة حلب.

في تلك الأيام كانت نخبة الأردن والعرب، أبناء جيلٍ واحد، تعارفوا في السلط وبيروت ودمشق والقدس والقاهرة وعمان، وستقع بينهم الافتراقات الفكرية والسياسية في تلك المدن التي كانت تموج وتضطرب بالتداعيات المذهلة للصراع العربي الصهيوني والصراعات العربية-العربية المصاحبة الناتجة عن نكبة فلسطين التي هزت الوجدان العربي كله، حيث شهد عقد الخمسينيات ما لا يمكن تصوره من زلازل فكرية وسياسية ستظل مستمرةً وجارفة بكل ما يعرفه وسيعرفه الناس من نتائج لاحقة.

ومن البداية كان وصفي في وسط المعمعة، محارباً ومفكراً وسياسياً شرساً، وسيكون صدامه الأكبر مع الموجة الناصرية العاتية ، حتى وجد نفسه في مواجهة مفتوحة مع سياسات الرئيس جمال عبد الناصر، وامتداداتها في الأردن المتمثلة خصوصاً في حكومة النابلسي ذات الجماهيرية الواسعة التي خاض معها مواجهةً سياسيةً حادة بأقطابها الكبار: سليمان النابلسي، عبد الحميد النمر، شفيق رشيدات، عبدالله الريماوي وأنور الخطيب ، دون أن يتوقع أحد آنذاك أنه سيفوز بكل هذه المواجهات الكبرى مع قوى كاسحة في الشارع العربي ، ومن المؤكد أنه لم يكن يتردد أبداً في طرح أفكاره علناً حتى أمام جماهير غاضبة في ندواتٍ مفتوحة.

وفي كل مواجهاته كان وصفي يستند إلى ثقافةٍ عميقةٍ جداً وصلبة، ربما لم يستكشفها أحد بصورةٍ كافية حتى الان، فقد مزج الرجل بشكلٍ لا مثيل له بين ثقافات متعددة، وفهم عبر اطلاعاته الواسعة أن الفلسفة اليونانية هي الأصل الذي اندفع منه الفكر المتقدم في حضارة الغرب ، ولا يمكن أن تغني عن فهمها أية فلسفة أخرى بما في ذلك فلسفة إبن رشد االعظيمة لتي لاحظ بعض نقاط ضعفها ، ونتيجة لذلك كان تركيزه الصارم على الاستخدام التام للعقل والمنطق والتفكيرالعلمي المركب ، الذي سيتيح له إمكانيات التحكم بكل ما تنتجه العواطف والمشاعر الهائجة من انزلاقاتٍ وتهورات ، كانت ولا تزال تعم الساحة العربية، واصدر في وقتٍ مبكر كتابه الشهير دور الخلق والعقل في معركة التحرير.

وحين يصل إلى الحكم عام 1961 سيضع كل فكره موضع التطبيق المباشر بدون أي تردد ، ظلت كل انجازاته الفعلية باقيةٌ في قلوب الناس وعيونها ، وعلى طول طريقه حياً وميتاً ظل الرجل يتوهج في ذاكرة الشعب بشكلٍ معاكس لقانون النسيان ، فكلما مر الزمن أكثر كان الناس يتذكرونه أكثر فأكثر، في حين كانت صور كل خصومه تحتفظ بحجمها أو تتلاشى.

ومن أول أيامه في الحكم سيقول علناً أنه لا يشتهي السلطة أبداً وهو مستعدٌ في أي وقت أن يعود من حيث أتى ، على ان يقدم أية تنازلات عن مبادئه للحصول على الأصوات البرلمانية ، فكانت سنوات حكمه شاقةً ومثيرةً وغنية بكل ما هوقابلٌ للاستكشاف عن طبيعة هذا الإنسان ونفاذ بصيرته ، وبكل مشاعرالألم يصعب على نفس الباحث الان أن يتصورالاجوبة المحتملة على اسئلةٍ من نوع ماذا لو؟ وبالتحديد ماذا لو أن عبد الناصر أصغى اليه في ذلك اللقاء اليتيم بينهما عام 1965، أو ماذا لو أنه إستأجر رأس هذا القوي الأمين؟ ولا يؤلم النفس شيءٌ مثل إستبصار وصفي بنفسه ، بأن الناس سيقولون بعد فوات الأوان يا ليتنا استمعنا لفلان ، وهو القائل سلفاً سجلوا على لساني بأن عبد الناصر سيندم على تدخله في اليمن ، أما الفاجعة الأكثر مرارة على النفس فهي تخليه عن الحكم مطلع العام 1967 حين أدرك أنه غير قادر على الحيلولة دون تورط بلاده وأمته في حرب حزيران التي كان متيقناً من نتائجها مسبقاً ، وبالتحديد إحتلال الضفة الغربية التي كان يدرك تماما أنها هدفٌ إسرائيليٌ مستعجل في جدول الأهداف الصهيونية.

لكنه وبشكلٍ مثيرٍ حقاً ، سيدعو لاستئناف القتال بعد الهزيمة الشنيعة بهدف منع إسرائيل من تكريس إحتلالها وتأبيده ، ويكاد ان ينجح عام 1968 بتشكيل حكومة جديدة لتحقيق هذا الهدف سيطلق عليها إسم (حكومة قرطاجة) ويبدو أن تحضيراته لتشكيل تلك الحكومة وصلت إلى نقطةٍ متقدمة ، مما دفع بصحيفة الصنداي تلغراف البريطانية إلى نشر تقريرٍ على صفجتها الأولى ذا طابعٍ تحذيري وتحريضي يكشف عن خطط حكومته الوشيكة التشكيل، فإنصرف النظر كما يبدوعن تشكيلها وتكثفت زيارات المبعوث الدولي جونار يارنج الى عمان حتى زادت عن 15مرة وبدا أن القرار الدولي 242 على وشك التطبيق وأن الإنسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة ممكن الحدوث ، وبصورةٍ متسارعة سيتحول الصراع الى صراع بين الاخوة حول من سيحكم الضفة الغربية بعد استردادها ، الأمر الذي إنتهى إلى قرار الرباط ثم قرار فك الإرتباط ، ثم كل ما جرى بعد ذلك.

لقد ذهب ذلك الجيل كله إلى الدارالأخرة ، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره، لكن أحداً ممن يفهمون المجريات لا يمكن أن يجادل في حالة المرج بعد ذوبان الثلج، ففي وقت مبكر ذهب جمال عبد الناصر، وحين لم يجد السادات ما يملأ به الفراغ الهائل لتثبيت حكمه ، سيكون رأس وصفي التل هو الدفعة الأولى من أو على الحساب الجاري !!