هوس كأس العالم.. لِمَ يشعر المشجعون بالولاء لفرقهم أكثر من اللاعبين أنفسهم؟
لا يستفيد المشجع أي نفع يُذكر من النادي أو فريق بلاده، لا يحصل على راتب أو مكافأة، ولا يتلقى تقديرا إلا فيما ندر، وعلى الرغم من ذلك تجد أن ولاء المشجع للفريق أكبر من اللاعب نفسه، الذي يتلقى أجرا ومكافآت ومزايا متنوعة، هذا التناقض الغريب جدا أثار انتباه نوت كورنل، الحاصل على الدكتوراه في علم النفس والكاتب في منصة "سايكولوجي توداي" العالمية، لتفسيره بطريقة علمية.
نص الترجمة:
إذا بدأت في منح طفلة مكافأة مقابل ممارستها لشيء ما تحبه على غرار التلوين، فستكتشف بعد مدة أنها أصبحت تقضي وقتا أكبر في التلوين، وستبدأ نظرة الطفلة لهذه الهواية تتغير، فلم يعد التلوين بالنسبة إليها مجرد نشاط تحب ممارسته بقدر ما سيتحول إلى عمل عليها القيام به لتتلقى مكافأة في المقابل. وما إن تحرمها من المكافآت حتى يتكشف لك أنها لم تعد تمارس التلوين بقدر ما كانت تفعل في البداية. يُطلَق على هذه الظاهرة في علم النفس اسم "تأثير الإفراط في التبرير" (over-justification effect)، وتحدث عندما يُقلل الحافز الخارجي من الدافع الجوهري لشخص ما لإنهاء مهمة معينة، بمعنى أن المكافآت المُفرِطة يمكن أن تُقوِّض الحافز الداخلي للفرد.
إذا طبقنا ذلك على مجال الرياضة، فسيتبيَّن لنا أن اللاعبين المحترفين يمارسون نشاطا يحبونه، ويتقاضون في المقابل رواتب ضخمة، على سبيل المثال، لاعب كرة السلة الأميركي الراحل "كوبي براينت" كان يجني ما يقرب من ربع مليون دولار عن كل مباراة يلعبها. يُشير علم النفس إلى أن هذا النوع من المكافآت الخارجية لا بد أن يُقلل من الدوافع الداخلية للفرد، وهذا ما يؤكده معظم اللاعبين، إذ يرون أن الرياضة الاحترافية هي في المقام الأول نشاط تجاري وليست لعبة. في حين يظهر على الجانب الآخر تناقض لا يبعث على التعجب بقدر ما يُظهِر واقعية هذا التوصيف، وهو سلوك المشجعين الذين لا يتقاضون أجرا مقابل تشجيعهم، بل على العكس من ذلك، نجدهم يُنفقون الكثير من الأموال -قد تصل أحيانا إلى مبالغ خيالية- لحضور المباريات، أو شراء مُعدات خاصة لمتابعة المباريات، وهي ما يعني أن شعورهم بالمتعة ينبع من مصدر نفسي أكثر عمقا.
غير أن المبالغة في الإنفاق لمشاهدة فريقك المفضل يخلق تنافرا، أو صراعا نفسيا بين قيمة المال وقيمة الفريق. يبتدع عقلك في هذه الحالة طريقة واحدة فقط لحل هذا الصراع، وهي أن تحب الفريق بدرجة كافية لتبرير هذه التكلفة. وفقا لعلم النفس، ثمة سبب وجيه يفسر هذه الظاهرة، وهي نظرية تُسمى "التنافر المعرفي" (cognitive dissonance theory)، وفيها يواجه الفرد مواقف أو معتقدات أو سلوكيات متضاربة ومتناقضة، ينتج عنها شعور بالتوتر وعدم الراحة، ويخلق داخله دافعا لمحاولة الحد من هذا التنافر، وهذا بالضبط ما يحدث مع المشجعين.
تكمن المفارقة الحقيقية في أن تلقي أجر مقابل لعب المباراة يختلف اختلافا جذريا في تأثيره النفسي عن إنفاق المال في سبيل متابعة المباراة. فدفع الأموال للاعبين يُقلل من تحفيزهم الداخلي، بينما إنفاق المال لمشاهدة المباراة يزيد من حب المعجبين للفريق، إذ تتسع أعماقهم، وتتبطن بانفعالات تُثير النشوة، ربما ذلك هو السبب في أن المشجعين يبدون أشد انتماء وأكثر حبا لفِرَقهم من اللاعبين أنفسهم. فالمشجعون الحقيقيون لا يُغيِّرون ولاءاتهم أبدا، فقد ترتعش أعماق أنفسهم بالغصّات عند الهزيمة، ويُصابون بنوبات قلبية أثناء مشاهدة المباريات، بل ويخوضون شجارات، وتتوارى أمانيهم، وتنزوي أفراحهم، وتضمحل ابتسامتهم، وأحيانا يقومون بأعمال شغب، ويتأزم الجو لدرجة أن الموت قد يحل مُطالِبا بهم، ويسلِّمون الروح في سبيل فريقهم المُفضل، ويُبدي بعضهم استعدادا تاما لفعل أي شيء لمساعدة الفريق.
على الجانب الآخر، نجد أن اللاعبين على الرغم من مجهوداتهم المُستميتة في التدريبات، فإنهم لن يترددوا أبدا في الانتقال إلى فِرَق أخرى بمجرد حصولهم على عروض أفضل. وذلك لا ينفي رغبتهم الدائمة في الفوز، لكن الفرق هنا أن ولاءهم الأكبر لأنفسهم ومن ثم فريقهم، على عكس المشجعين الذين يُكرِّسون ولاءهم في المقام الأول للفريق، ثم يأتي بعد ذلك اللاعبون والرياضة في المقام الثاني. وهذا يُحيلنا إلى السؤال الأهم: لماذا يبذل المشجعون كل هذا الحب إزاء فِرَقهم؟ للإجابة عن هذا السؤال علينا أن ندرك أولا أن إحدى أفضل الطرق لتوحيد مجموعة ما هي تحريضهم ضد عدو مشترك، فمهما اختلفتْ أفكارهم باختلاف مقاصدهم من الحياة، فستتفق قلوبهم على كراهية هذا العدو.
في هذه الحالة، تجري عواطف كل فرد في المجموعة الواحدة على دروب عواطف باقي الأفراد، والمواقف ذاتها تُثير وجدانهم، لذا فمهما اختلفوا في المظهر والسلوك، فإنهم يملكون جوهرا واحدا تجاه فريقهم، ويبرع المجال الرياضي في تحقيق هذه الغاية باحترافية. تستدرّ الرياضة تعاطفنا نحو فكرة الفريق المُفضل، وتحشد نفورنا ضد أي فريق آخر، كما أن الائتلاف معا ضد عدو لدود يخلق على الفور صداقة حميمة تشبه الصداقة الحميمة التي تتطور بين الجنود في الحرب. صحيح أنهم قد يبدون في مُستهل الأمر غرباء، لكنهم في النهاية يكتسبون درجة من الحميمية الصادقة تجعلهم يتقاسمون نسخة مُذهلة من الانسجام ولو لبرهة وجيزة من عُمر الزمن. والميزة الأهم من ذلك كله أنك لست مضطرا لأن تحب الأشخاص الذين تأتلف معهم، بل يكفي فقط أن تأخذوا الجانب ذاته لتغدوا حلفاء.
لا يقتصر مفهوم الصداقة الحميمة على مشجعي كرة القدم فحسب، بل تنشأ صداقة بين مشجعي جميع الرياضات بما في ذلك البيسبول. فمثلا بالنسبة لمشجعي فريق البيسبول الأميركي "ريد سوكس"، قد يكون الشيء الوحيد الأسوأ على الإطلاق من مشجعي فريق البيسبول المنافس "يانكي" هو شخص لا يهتم بالبيسبول على الإطلاق، والشيء ذاته ينطبق على الدين أيضا، فبالنسبة للعديد من المسيحيين المتشددين واليهود والمسلمين، الشيء الوحيد الذي قد يكون أسوأ من شخص يعتنق دينا مختلفا هو شخص مُلحد.
ثمة تفسيرات وجيهة للإجابة عن هذا السؤال، منها أن اللاعبين هم مَن يخوضون غمار المعركة وحدهم، لذا فالأمر بالنسبة إليهم مختلف للغاية. كونك الأفضل في شيء ما يُعَدُّ عملا شاقا، ومواجهة حياة يشتد عسرها ببطء وثبات ليس بالأمر اليسير، وهذا ما لا يفطن إليه المشجعون الذين يرون أن ثمة قوة خفية تستهوي الرياضيين المحترفين وتبعدهم عن هذا العالم، وتدنيهم ببطء إلى عالم الكرة السحري، فيمارسون نشاطا يحبونه ويبرعون فيه كل يوم، غير أن الواقع أبعد ما يكون عن هذه التخيّلات، لأن كل ما يُضاف إلى الذات هو عبء مثلما هو مفخرة، فمن أجل أن تُحرز لقب أفضل لاعب، لا يمكنك أن ترى كرة القدم مثلا على أنها مجرد نشاط تهوى ممارسته، أو شيء اخترته لتُغدق عليه عواطفك، بل عليك أن ترى الرياضة عملا تبذل في سبيله جهدا مُضاعفا لبلوغ مسعاك.
حينما طُلب من المطربين على سبيل المثال تقييم مدى استمتاعهم بممارسة الغناء، نفى المطربون المحترفون استمتاعهم بالغناء بالقدر الذي نتخيله، لأنهم مضطرون للانغماس كليا في تدريبات مُتعمَّدة ومُكثَّفة، كما أنهم يحاولون باستمرار تطوير تقنيات جديدة، وتحسين نقاط ضعفهم وما إلى ذلك. لذا، لكي تصبح خبيرا ومُحترفا في مجال ما، عليك أن تبذل في سبيل ذلك 10,000 ساعة من العمل، لأنك إن قضيت هذه الساعات في المرح فلن تبلغ هدفك المنشود. ينطبق الأمر ذاته على الرياضيين، إنهم بالتأكيد يستمتعون بالفوز، لكن تلك النظرة الاعتباطية وغير الموضوعية التي يتخيلها المشجعون عن اللاعبين لا تمت للواقع بِصلة. صحيح أنهم يحبون اللعب في الأوقات التي يبدون في دواخلهم أحرارا تَسُوقهم روح المغامرة، وغير ملتزمين بشيء معيّن، لكن ما يفعلونه كل يوم هو شيء آخر يُسمى العمل.
يلوح هذا التناقض بين موقف اللاعبين وموقف المشجعين في أكثر من موقف، أشهرها عندما يغيّر اللاعب فريقه. وأقرب مثال على ذلك هو لاعب كرة القدم الأميركية بريت فافر الذي صرف ربيع عمره برفقة فريق "غرين باي باكرز"، وأحبه المشجعون، ورغم ذلك لم يستمر هذا الحب، ففي اللحظة التي وقَّع فيها مع فريق آخر، تبادل الجمهور نظرات أسى مُشتعلة بالغضب، واكفهرت الأجواء من حول اللاعب وتطاير منها الشرر، وسرعان ما تعرض للانتقادات والتشهير. والأمر نفسه تكرر مع لاعب كرة السلة الأميركي المُحترف ليبرون جيمس، الذي تحول من كونه اللاعب الأكثر شعبية في نادي كليفلاند إلى العدو رقم 1 في ثوانٍ معدودة بمجرد أن أعلن عن توقيعه مع نادٍ آخر وهو "ميامي هيت".
إذا تقصينا تاريخ المواقف، فسنجد تيارا متواصلا من التحاملات ضد أي لاعب يُعلِن عن توقيعه مع فريق آخر، باعتبار أن ما فعله يُعَدُّ خيانة خالصة لا مُسوِّغ لها. الأمر معهم أشبه بأن تقرر استبدال أحد أفراد عائلتك وتضع محله فردا آخر جديدا. لذا، كلما زاد حب الجماهير للاعب قبل الانتقال، زاد هجومهم عليه، وزاغ عن بصائرهم تاريخه الحافل الذي يبدو أمام أعينهم مُتشِحا بضباب الزوال. في هذا الوقت يشعر اللاعب بأنه لم يعد يأمن بأن يُفضي بما في نفسه، لأن الخيانة قد تتجسد في اسمه كأنما أُلقيت عليه في لحظة خاطفة، فضلا عن غضب الجمهور الزاحف الذي يمكن أن يلتهم صفحة تاريخه كاملة.
على الرغم من أن ليبرون منح قلبه وروحه لنادي كليفلاند لسنوات طويلة، واعتقد أنهم سيُقدِّرون ذلك، فإنهم لم يفعلوا، وكأن قراره بالانتقال مرَّ طامسا بأقدامه سنوات طويلة من إنجازاته. تكمن المُعضلة الأساسية في أن اللاعبين يرون الرياضة على حقيقتها التي لا تتعدى كونها نشاطا تجاريا على عكس الجمهور. ورغم أن ليبرون لم يصرِّح بأي وعود تجاه نادي كليفلاند، فإن مشجعي الفريق لم يتفهموا ذلك. لذا ربما شعر في لحظة ما أن عليه أن يتحرر من كونه أسير قبضة أحكام الآخرين، ويتخذ قراراته الخاصة التي تصب في صالحه. إذا ما تأملنا الوضع بعين محايدة، فسنجد أنه بالنسبة للاعب يمكن استبدال الفِرَق والمشجعين، على عكس المشجعين الذين يتشبثون بناديهم إلى درجة التماهي، ويؤمنون بأنه لا يمكن استبدال فريقهم أبدا تحت أي ظرف من الظروف. والتفسير النفسي وراء ذلك هو أن الجمهور لا يستسيغ سوى وجهة نظره، ويغض الطرف عن أي نقيض.
هذا السؤال يُحيلنا إلى النقطة الأخيرة وهي التحيُّز. يملك المشجعون درجة عالية من التحيُّز، يرون اللعبة من وجهة نظرهم فحسب، لهذا السبب بالتحديد، كثيرا ما نشهد بعد العديد من المباريات اعتراضات على أداء الحكام، ومن السهل ملاحظة كيف تزحف الانتقادات على الحكم زحفا، وترتفع تلك اللهجة المُفعمة باتهامات ضده بأنه "لم يكن عادلا". يحدث ذلك كله بسبب ما يُعرَف في علم النفس بـ"الانحياز التأكيدي" (confirmation bias) (وهو الميل إلى البحث عن المعلومات وتفسيرها بطريقة تتوافق مع معتقدات وافتراضات الفرد، بينما لا يولي انتباها مماثلا للمعلومات المناقضة لها)، بمعنى أنه قد يخلق عالما من التخيلات يأخذها على محمل الجد، ويستثمر عاطفة كبيرة فيها بينما يفصلها فصلا حادا عن الواقع، وهذا الانحياز يتكرر بسبب ظاهرة أخرى تُعرَف باسم "التوافر الإرشادي" (Availability Heuristic)، أو "الانحياز للمتوفر" (وهو انحياز سلوكي يظهر عندما يميل الناس إلى إصدار أحكام حول موضوع ما استنادا إلى مدى سهولة المعلومة أو المثال الذي يتبادر إلى الذهن لحظة تقييم هذا الموضوع).
المشكلة هنا لا تكمن في الانحياز إلى الفريق المفضل، بل فيما يمارسه المشجعون من تصرفات مزعجة أثناء المباراة، كالصراخ على المدربين، أو على جمهور الفِرَق الأخرى، أو حتى توجيه الصراخ إلى التلفاز نفسه. ونعتقد بطريقة ما أننا ما دمنا مشجعين، فإننا نملك الحق في أن نُملي على اللاعبين ما يجب أن يفعلوه استنادا إلى تاريخنا المصقول بجلوسنا على الأريكة ومتابعة القنوات الرياضية. يُخيَّل إلينا طوال الوقت أننا نعرف أكثر من اللاعبين والمدربين المحترفين الذين يعملون لساعات جنونية. إن أسوأ المشجعين على الإطلاق هم الذين يصبحون فيما بعد آباء يندفعون في سبيلهم بقوة غريزة مُستَحكمة، ويتجهون إلى مَدرسة أطفالهم للصراخ على المدربين وخوض شجار مع آباء الأطفال الآخرين.
في نهاية المطاف، من الطبيعي التحيُّز لأطفالك، لكن من الصعب تبرير الصراخ طوال الوقت على المدربين والأطفال الآخرين. علينا أن ندرك الحقيقة البسيطة، وهي أن المدربين واللاعبين يعرفون ما يفعلونه أكثر مما تعتقد أنت، وهذا لا ينفي وجود بعض الاستثناءات التي يظهر فيها مدى سوء وضعف المدربين، ومدى مهارة المشجعين في التنبؤ والتحليل، لكن يظل ذلك استثناء، وتبقى القاعدة العامة هي أن المدرب أو اللاعب عندما يتخذ قرارا لا توافق عليه، فعليك أن تتوقف لحظة قبل أن تنفجر غاضبا، وتفكر بهدوء، وتتساءل: ألا يوجد احتمال ولو ضئيل بأن وجهة نظرك هي الخاطئة، وأن قراراتهم كانت هي الأصح؟
—————————————————————-
ترجمة:سمية زاهر.
المصدر:مواقع إلكترونية