الهجرة القسرية للأردنيين: سوء تخطيط أم سياسة مقصودة ؟
لسنا بصدد كيل المديح لأحد إذ لا شكر على واجب، كما أننا لسنا معنيين بالنقد لمجرد النقد بل لتبيان الحقيقة كمدخل للإصلاح . أما مطلب الانصياع الدائم والرضوخ من منطلق أن من ليس معنا فهو ضدنا، فهذا نهج مرفوض ومردود على أصحابه مهما كانت مرتبتهم أو موقعهم في إدارة شؤون الدولة .
الأردن أصبح للأسف كياناً طارداً لأبنائه الأذكياء ولشبابه الطموح ولرأسماله الوطني، ولكن كيف ولماذا؟ هل هذه سياسة مقصودة ؟ أم نتيجة حتمية لسياسات لا تخلو من قصر النظر المكلل بالفساد؟
إن كيل المديح للنفس من خلال تكرار الإدعاء بأن الاردنيين بخير وأنهم محظوظون بنعمة الأمن والأمان، هو نهج بعيد عن الحقيقة ويسعى الى بيع الوهم وتجاهل الواقع . إذ في الوقت الذي يعاني فيه اكثر من 25% من الشباب الأردني من كونهم عاطلين عن العمل، فإن أكثر من 47% من شباب الأردن أبدوا رغبتهم من خلال إستفتاء عام في الهجرة وترك البلد، مضافاً الى كل ذلك أن أسعار المواد الأساسية من محروقات ودواء وكهرباء ومياه أصبحت أعلى من قدرة المواطن العادي على الدفع وفي ازدياد، وأن إدعاء المسؤولين بأن الاردنيين بخير قد ينطبق فقط على أقل من عشرة بالمائة من سكان المدن الكبرى، وأن واقع الأمور يؤكد أن من يلتحف ويتدثر بغطاء الدولة سوف ينام ويصحو بالنتيجة جوعاناً عرياناً .
يتساءل معظم الأردنيين عن حقيقة الأسباب وراء هذا الواقع المرّ والمعاناة الحياتية التي تعيشها معظم الاجيال الجديدة من الأردنيين، إن لم يكن جميعها وإن بدرجات متفاوتة . هل الحكم مذنب بتسببه في هذا الوضع المؤسف كخيار مقصود أم أنه نتيجة لقصر النظر ولعوامل الفساد والافساد التي تكتنف أزلام النظام ومؤسساته وسياساته؟ أم أن ما يجري هو نتيجة حتمية لقصور الحكم عن القيام بواجباته على نحو رشيد بما في ذلك اختلال المعايير، وانتقاء الأسوأ لقيادة الأفضل، أو تجاهل الأفضل في عملية إختيار المسؤولين عن إدارة شؤون الدولة . المقاييس التي تحكم التعيين في المراكز الحساسة والهامة هي على ما يبدو مقاييس لا علاقة لها بالكفاءة والمهنية المطلوبة وسيادة العدالة وأولوية الحق، بقدر ما يتعلق الأمر بسوء الادارة أو الجباية الجائرة أو الفساد في ادارة شؤون الدولة أو في القدرة على تمرير قوانين وسياسات بعيدة عن المبادئ الدستورية أو متعارضة معها .
الهجرة القسرية الطوعية هي مسار محتوم في حال استمرار وجود بيئة طاردة قد تأخذ أشكالاً وأنماطاً مختلفة، ومن أهم خصائص هذه البيئة الطاردة، خصوصاً في الحالة الأردنية، مايلي :-
اولاً : غياب الشفافية ومعايير الكفاءة في التعيينات للمناصب الاستراتيجية وممارسة الدولة لسياسة الاقصاء بشكل عام بحيث يتم إعطاء أبناء أو أحفاد المسؤولين أو أزلام النظام حصة الاسد في التعيينات للمناصب الهامة والبعثات دون وجه حق . وقد أدى هذا الوضع الشاذ الى إضعاف الاستقرار النفسي للاجيال الجديدة من الأردنيين وجعل منهم أجيالاً قلقة وغير مطمئنة على مستقبلها في بلدها مما شكل حافزاً لها للهجرة من البلد بحثأً عن الفرصة المتكافئة .
ثانياً : تفشي الفساد العام والمحسوبية والرشوة في إدارة شؤون الدولة مما جعل مستقبل الاجيال الجديدة الشابة رهينة لمؤسسة الفساد الكبير تلك، وضاغطاً على المنظومة الأخلاقية والتربوية لأولئك الشباب ومُحْبِطاً لهم ولآمالهم مما سوف لا يترك خياراً أمام الأجيال الجديدة سوى إما الانضمام الى ركب الفساد أو العمل خارج مؤسسات الدولة أو ترك البلد .
ثالثاً : غياب أي منظور استراتيجي للتعليم العالي يتواكب مع خطط التنمية الاقتصادية والتطور التكنولوجي . أما الاصرار على بقاء مناهج التعليم العالي ضمن تخصصات عشوائية تقليدية تنتمي الى عالم قديم قيد الزوال فهذا سوف يجعل منها مصدراً لإنتاج البطالة كونها سوف تنتج آلاف الخريجين في تخصصات لم يعد هنالك حاجة لها أو يوجد اشباع في عدد الخريجين منها .
رابعاً : عدم استقرار التشريعات والسياسات الناظمة لعمليات الاستثمار والتنمية، وبالتالي الاضمحلال التدريجي لقدرة الاقتصاد الوطني على النمو والتوسع ومواكبة عجلة التطور التكنولوجي والمنهجي في ادارة الاقتصاد، وفقدان الاقتصاد الوطني بالتالي القدرة على استيعاب أعداد الخريجين المتزايدة.
خامساً : تعسف الدولة في استعمال السلطة ولجوئها الى اساليب إستبدادية في التعامل مع المواطنين مثل الحجز على أموال وأملاك أي مواطن أو منعه من السفر دون إعلامه ودون قرار حقيقي عادل من المحاكم علماً أن قيمة الأموال المحجوزة تعادل في العادة قيمة المبالغ المطالب بها بعشرات أو مئات الأضعاف. إن هذا التعسف في استعمال السلطة قد أدى الى هروب رؤوس الأموال الى خارج البلاد مما الحق أيضاً أضراراً ملحوظة بالبيئة الاستثمارية وبالاقتصاد الوطني وساهم بالتالي في تفشي البطالة .
سادساً : إن عملية إضعاف القضاء الأردني على مدى ما يزيد عن ربع قرن يشكل مساراً مُحْبطاً للاستثمار الاجنبي والمَحَلِّي خصوصاً وأن من الملحوظ مؤخراً ميل القضاء الأردني وبغض النظر عن التفاصيل، إلى أن ينحاز إلى الدولة إذا ما حصل هنالك أي خلاف بين مستثمر محلي أو أجنبي من جهة والدولة أو أي من مؤسساتها من جهة أخرى، مما يتنافى ودور القضاء كحامي للقانون ولحقوق المواطن حتى لو كانت الدولة هي الخصم . وقد أدي هذا الوضع الى عزوف المستثمرين عن الاستثمار في الأردن خوفاً على مصالحهم مما أضعف من قدرة الاقتصاد الاردني على استيعاب المزيد من الخريجين الشباب وساهم في زيادة البطالة بينهم .
سابعاً : فَشَلَ القطاع البنكي الاردني في مواكبة عجلة التطور الاقتصادي وتشجيع نهج الاستثمار والإكتفاء بالدور التقليدي للبنوك كجابي للأرباح فقط، ومثال على ذلك أن الفرق بين نسبة الفوائد على الودائع مقارنة بنسبة الفوائد على القروض في البنوك الأردنية والتي تتراوح بين 5-7 نقاط لصالح الفوائد على القروض قد تكون من أعلى النسب في العالم . هذا بالإضافة إلى إمتناع البنوك عن دعم الافكار والمشاريع الابداعية للاجيال الشابة نظراً لافتقارها إلى الضمانات العقارية التقليدية .
ثامناً : مجمل الحمل الضريبي المباشر وغير المباشر على المواطن الأردني والذي يتجاوز نسبة خمسة وستون بالمائة (65%) يُعْتَبَر من أعلى النسب في العالم خصوصاً وأن الدولة الأردنية لا تقدم للمواطن الأردني أي خدمات توازي ولو جزئياً ضخامة الحمل الضريبي وأثره السلبي على النمو الاقتصادي خصوصاً وأن حقوق المواطن قد تم تحويلها من حقوق الى مكرمات، وأن عوائد الضربية غالباً ما ُتنْفَق على الرواتب والأجهزة الأمنية دون تخصيص أي جزء للاستثمار في التنمية الاقتصادية والبنية التحتية ذات العائد .
إن مجمل الحمل الضريبي يرتبط عادة بمتطلبات التنمية ودعم تنمية الموارد وليس الانفاق فقط . وهكذا فإن الحمل الضريبي والغرامات الربوية الفاحشة، وفي أحيان كثيرة الظالمة، المرافقة له والتي تفرضها الدولة على المواطن والمستثمر، قد خلقت حوافز اضافية لدي المواطن إمّا الى مغادرة البلد أو الهجرة القسرية الطوعية أو الى اللجوء الى وسائل غير قانونية من خلال مؤسسة الفساد لتعزيز قدرته على البقاء في البلد .
إن الخوض في متاهة البحث في الوضع الضريبي للدولة الأردنية وما آلت إليه هو أقرب ما يكون الى البحث عن ابرة في ظلام دامس . القائمون على الشأن العام في ادارة الدولة الأردنية هم مَنْ أوصل هذه الدولة الى وضع الدولة الهلامية . ومحاولة الاصلاح ضمن هذا الوضع لن تؤدي في الواقع الى شيء لأنها تفترض أن هنالك دولة متماسكة في مؤسساتها الدستورية ينبغي العمل على اصلاحها في الوقت الذي تمت فيه عملية اذابة معظم تلك المؤسسات وتحويلها الى عناوين بلا مضمون مما حَوَّل الدولة الأردنية من دولة سائدة ورشيدة خلال المؤية الأولى الى دولة ضعيفة في بدايات المؤية الثانية غير قادرة على رعاية مستقبل أبنائها وغير سائدة حتى على مقدراتها الذاتية .