في فيلم "زمن حرب نهاية العالم".. مخرج يهودي يتهم أسرته بالعنصرية

يكشف المخرج جيمس غراي في فيلمه "زمن حرب نهاية العالم" (Armageddon time) الذي يعرض حاليا بالولايات المتحدة عن أسرار الأسر اليهودية ثمانينيات القرن الماضي وهي السنوات المؤسسة لما وصل إليه يهود هذا البلد الآن من سيطرة على مفاصل الحياة السياسية والإعلامية والاقتصادية في الدولة.

يعود المخرج إلى سنواته الأولى في نيويورك حيث نشأ كطفل يهودي، ليقدم أجواء عائلة ممتدة من الأجداد إلى الأحفاد، ويرصد كيف تمت تنشئة الطفل اليهودي في نيويورك باعتباره ينتمي إلى جالية منفصلة تحاول الاندماج في المجتمع، لكنها تحتفظ في الوقت ذاته بقيمها الخاصة، وتحرص دائما على ذكريات الاضطهاد والتمييز، غير أنها من صديق الابن الذي ينتمي للأميركيين ذوي الأصول الأفريقية، وتكره الرئيس الراحل رونالد ريغان، وتعتبر انتخابه بمثابة إشارة لاندلاع حرب عالمية جديدة.

فيلم شخصي

رغم الاعتراف الذي تحظى به ظاهرة الفيلم الشخصي التي اشتهر بها المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني مثل فيلم "ثمانية ونصف" (Eight and a Half) عام 1963، والمصري يوسف شاهين في رباعيته " إسكندرية ليه" (1978) و"حدوتة مصرية" (1982) و"إسكندرية كمان وكمان" (1990) ثم "إسكندرية نيويورك" (2004) إلا أن عام 2022 شهد ظهور فيلمين من هذا النوع دفعة واحدة.

قدم المخرج المخضرم ستيفن سبيلبرغ فيلمه "عائلة فيبلمان" عن طفولته وصباه، وها هو غراي ينطلق من ذكريات نشأته كطفل في أسرته اليهودية ليرسم ملامح مجتمعية وفكرية للجالية اليهودية، راصدا بصراحة تامة أسلوب "الأقليات الدينية والعرقية" في تنشئة الأجيال الجديدة، والقيم التي يتم زرعها فيهم خوفا وطمعا.

حظي غراي باعتراف دولي منذ قدم عمله الأول "أوديسا الصغيرة" (Little Odessa) عام 1994، حيث حصل على جائزة الأسد الفضي من مهرجان فينيسيا.

وكان هذا العمل دراما تدور أوائل التسعينيات حول عائلة من اليهود السوفيات تعيش في حي برايتون بيتش المجاور للمحيط في بروكلين الملقب بـ "ليتل أوديسا".

ويبدو غراي مغرما بإعادة قراءة وتجسيد الحياة العائلية للأسر اليهودية، إذ يلامس هذه المرة في فيلم "زمن حرب نهاية العالم" حياة أسرة يهودية نيويوركية ثمانينيات القرن الماضي خلال فترة الرئيس ريغان.

استعان غراي بالممثل الأسطوري السير أنتوني هوبكنز الذي قدم دور الجد اليهودي بحرفية مدهشة، وتكفلت آثار التقدم بالعمر (85 عاما) التي بدت على وجهه بالتأكيد على مصداقية حواره الذي جاء مفعما بذكريات مأساوية وتجارب قاسية تكفي لرجل عاش 100 عام.

وجسدت الممثلة آن هاثواي دور الأم استير غراف التي تنتمي للجيل الثاني من أبناء المهاجر اليهودي الهارب مما يسمونه "الهولوكوست" إلى إنجلترا ثم إلى الاضطهاد المجتمعي في أميركا.

استطاعت هاثواي أن تقبض على أطراف الشخصية ذات الأبعاد المختلفة، فهي زوجة وربة منزل تحاول أن تمارس نشاطا تطوعيا خارج منزلها، تقوم بدورها كابنة وزوجة وأم على أكمل وجه.

السباك

"ليس من العدل أن يدفع صديقك ثمن الخطأ المشترك بينكما، لكن من قال إن الحياة عادلة؟ على البعض أن يتلقى الظلم والإجحاف دائما".. كان الأب يرد على ابنه الذي تساءل عن مصير صديقه الأسود الذي شاركه سرقة جهاز حاسوب من المدرسة، ودفع ثمن الجريمة وحده.

وقدم الممثل جيريمي سترونغ دور الأب إيرفنغ غراف الذي يعمل سباكا، ويرث مخاوف والد زوجته من هولوكوست جديد، فيدفعه الخوف وفهم معادلة الحياة غير العادلة إلى اتباع قوانينها التي تقضي بعدم مخالفة التيار العام.

استطاع سترونغ، رغم قسوته كأب حين ضرب ابنه، أن يجلب تعاطف المشاهد حين كشف صناع العمل عن مفاتيح شخصيته التي تتلخص في أنه يتنفس الخوف كما يتنفس الهواء.

فالرجل الذي يعمل سباكا لم يجد الاحترام داخل العائلة سوى من والد زوجته الراحل بسبب مهنته، وقد أورثه الخوف من الاضطهاد والاعتقاد الجازم بأنه مكروه ظرا لكونه من هو، وليس لأسباب أخرى، لذلك فإنه رغم كراهيته وعدم احترامه للرئيس ريغان وتعبيره عن ذلك بالسب المستمر له في البيت وسط عائلته، يفضل الصمت أمام انتخابه رئيسا خارج المنزل.

إنه الازدواج الذي تعيشه العديد من الأقليات في العالم بدءا من الحديث بلغتها الخاصة في المنزل والتعامل بتقاليدها، وانتهاء بقصر المشاركة في الحياة السياسية على البوح داخل المنزل بين 4 جدران.

الجيل القادم

قام الطفل بانكس ريبيتا بدور أصغر الأحفاد وأقربهم للجد، وهو أيضا يمثل شخصية المخرج والمؤلف نفسه غراي الذي بدأ حياته فنانا تشكيليا، ثم جذبته السينما إليها. وكان هذا الطفل يحمل ملامح معبرة ويمتلك قدرة مدهشة على أداء مختلف المشاعر وتوصيلها ببساطة ورقي.

لم يكن ريبيتا (غراف) مجرد طفل لا يحب المدرسة، ويتورط في مشكلات قانونية بسبب السرقة، ويتعرض للعنف نتيجة صداقته بطفل من ذوي البشرة السوداء، لكنه أيضا حامل وصايا الجد الذي بدا الأكثر ثورية بين أعضاء الأسرة، إذ أوصى حفيده بعدم السكوت أمام ممارسة العنصرية من قبل زملائه أبناء العرق الأبيض ضد الزميل الأسود، على عكس الأب الذي طالب ابنه باتباع تقاليد المجتمع التي تضطهد السود.

ينتهي الفيلم بمشهد ثوري، إذ يقف الطفل مع زملائه في ساحة المدرسة، ويتلقى الجميع خطبة من المدير الذي يؤكد لتلاميذه أنهم نخبة النخبة، فيقوم الطفل بمغادرة القاعة فيما يشبه الاحتجاج العنيف على ذلك التمييز.

 
 

التوازن المفقود

حاول غراي أن يصور الحياة الاجتماعية لليهود ثمانينيات القرن الماضي، ولم يفته -بالطبع – استعادة الهولوكوست، والتذكير بالاضطهاد في أوروبا ومذابح اليهود، لكنه فقد البوصلة، إذ انجذب للمظلومية التاريخية اليهودية، فقضت على التيمة الرئيسية للفيلم الذي يفترض أن تدور أحداثه حول طفل يمتلك موهبة فنية حقيقية، تدفعه بدورها للثورة على كل ما هو غير عادل في مجتمعه.

جاء الجد والجدة من بريطانيا إلى الولايات المتحدة باسمين يهوديين، وتحملا الكراهية بسبب ذلك الحلم، وتغيرت أسماء أبناء الجيلين التاليين، فتحقق اتصال من نوع ما بالمجتمع، لكنه اتصال ظاهر فقط، حيث يحتفظ الجميع بمواقفهم العدائية تجاه الآخرين ويحتفظون بالأسماء أيضا في تراثهم وفي وجدانهم.

رغم ما يكشف عنه الفيلم من زيف وفصام داخل الشخص اليهودي الأميركي، إلا أن المخرج نفسه لم يسلم من ذلك الفصام.

انقسم الفيلم تقريبا إلى نصفين، حيث منح المخرج النصف الأول لمنزل الأسرة، والثاني للطفل غراف الذي ازدادت جرعة الدراما في حياته بعد وفاة جده.

يقدم بناء الفيلم -المنقسم دراميا وبصريا إلى نصفين- درسا حقيقيا حول ضرورة مراعاة منطق العمل من الداخل دون التأثر بالهوية الشخصية والهوى الشخصي، حتى لو كان الفيلم شخصيا تماما.

المصدر:الجزيرة