قرية فلسطينية لم تتوقف فيها انتفاضة الحجارة منذ 35 عاما.. تعرف عليها
حتى عام 1987 كان الجيش الإسرائيلي يعتبرها "قرية السلام" لغياب أي مظاهر احتجاج على الاحتلال من قبل سكانها، فكل من يحمل هوية قرية "بيت أُمّر" يمر بسهولة عبر الحواجز العسكرية، بينما يمنع سكان قرى أخرى من المرور لسجلِّهم الأمني.
لم تَرُق تلك المفاضلة لسكان القرية الواقعة شمالي مدينة الخليل بالضفة الغربية، فمع اندلاع انتفاضة الحجارة في 8 ديسمبر/كانون الأول 1987، هبت القرية ولم تخب لها نار منذ ذلك الحين.
ومنذ 35 عاما تسجل بيت أمر مواجهات شبه يومية ينتج عنها كل عام شهيد على الأقل وعشرات المصابين والمعتقلين، ومئات حالات الاختناق بالغاز.
سلاح وفير
حافظت هذه القرية على الحجارة كسلاح لا ينضب، حتى في أوج العملية السلمية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية تسعينيات القرن الماضي.
اجتمعت على "بيت أمر" عدة ظروف منعتها من رفع الراية البيضاء، وجعلتها تحافظ على جذوة المقاومة الشعبية أبرزها تغوّل الاستيطان على أراضيها وتمركز برج عسكري على مدخلها، مما شكل عوامل اشتعال دائمة في القرية.
على المدخل الرئيسي للقرية شرقا، والذي يوصلها بمدينتي الخليل جنوبا وبيت لحم والقدس شمالا، تتشر أكوام الحجارة التي انهالت على الجنود، ومئات الرصاصات الحية والمطاطية وبقايا القنابل الغازية والصوتية.
شهيد الهبة
مساء الاثنين 28 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عادت إلى "بيت أمر" أجواء كانت شهدتها في فبراير/شباط 1988، فكانت على موعد مع شهيد جديد ينضم إلى قافلة شهداء القرية، هو مفيد اخلَيّل (44 عاما) وهو أب لـ 5 أبناء تتراوح أعمارهم بين 12 و20 عاما.
في ذلك اليوم، هبّ مفيد -صاحب الروح الفكاهية والمرحة- إلى حيث المواجهة بين السكان وجنود الاحتلال المنتشرين وسط القرية، كما يقول شقيقه صادق للجزيرة نت، لكنه لم يعد.
كانت تلك المرة الثالثة التي يصل فيها خبر استشهاد مفيد للعائلة، من بين 5 مرات أصيب بها، فضلا عن اعتقاله مرتين من قبل قوات الاحتلال.
وجدت عائلة الشهيد وأطفاله من سكان القرية خير سند يشد عضدهم، ويرفع معنوياتهم من خلال وقوفهم لأيام في بيت العزاء، مثل عشرات الشهداء السابقين "ما خفف ألم أبنائه وذويه" حسب شقيق الشهيد.
يوم الشهداء
إبراهيم أبو عياش (50 عاما) وهو أحد نشطاء الانتفاضة الأولى واعتقل عدة مرات وأصيب برصاصة كادت تودي بحياته، يقول للجزيرة نت إن مشهد "بيت أمر" يوم استشهاد مفيد لا يختلف كثيرا عنه قبل 35 عاما.
يعود بنا أبو عياش إلى ذلك اليوم الذي ظل محفورا في ذاكرة سكان القرية يوم 27 فبراير/شباط 1988، وسمي بـ "يوم الشهداء".
في ذلك اليوم استشهد 3 من أبناء "بيت امر" وأصيب 45 برصاص الاحتلال خلال تصدي السكان لمحاولة اقتحام بلدتهم من قبل المستوطنين.
في ذلك اليوم، أي بعد أقل من 3 شهور على اندلاع انتفاضة الحجارة، يقول أبو عياش "وصل خبر الاقتحام إلى الناس فهبوا هبة رجل واحد إلى مدخل القرية لمنع الاقتحام، فأصيب الجنود بما يشبه الجنون وأطلقوا النار في كل اتجاه".
ويتابع "في ذلك اليوم استشهد 3 مواطنين، وأعلن عني شهيدا رابعا، فقد أصبت برصاصة اخترقت الحوض وخرجت من الظهر محدثة فتحة ما زالت موجودة حتى اليوم".
حاضنة مجتمعية
وبسبب خطورة حالته الصحية، مكث إبراهيم 12 يوما في العناية المكثفة، ثم 3 أشهر في أقسام المستشفى، وما زال يعاني من آثار الإصابة حتى اليوم.
لم تشفع آثار الإصابة لصاحبها، فقد نال القيد منه واعتقل الأعوام 1989 و1990 و1991، وجميعها بتهمة إلقاء الحجارة على الجنود والمستوطنين.
يقول أبو عياش إن مشهد "يوم الشهداء" تكرر بعدد شهداء أقل في 28 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حين حاصر السكان جيبات عسكرية وانهالوا عليها بالحجارة، فأصيب الكثير بالرصاص، استشهد أحدهم وهو مفيد اخلَيّل.
ويذكر الجريح والأسير السابق من أوجه الشبه بين الماضي والحاضر أن سكان القرية يشكلون حاضنة حقيقية للمقاومين، وكلهم يفتحون أبوابهم لكل من يلاحقه الجيش ويحاول القبض عليه.
ويلفت هنا إلى أن كل سكان "بيت أمر" يشاركون في المواجهات "لا يوجد نخبة تترفع عن الناس" موضحا أن المقاومة الشعبية "موضع إجماع بين السكان بمختلف مكوناتهم وانتماءاتهم الحزبية وخلفياتهم الفكرية، وهو أحد تفسيرات الديمومة في المواجهة".
ويقول إن القرية "لن ترفع الراية البيضاء، ولن يلقي سكانها الحجارة من أيديهم ما دام الاحتلال يواصل أعماله بوحشية".
روح "الفزعة"
على مدى 35 عاما قدمت "بيت أمر" 110 شهداء، إضافة إلى آلاف الإصابات، ومئات المعتقلين، وفق الناشط في توثيق الانتهاكات الإسرائيلية محمد عياد عوض.
وأشار عوض، الذي اصطحب الجزيرة نت في جولة داخل البلدة، إلى 30 إصابة بالرصاص الحي خلال موجهات 28 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي فقط، مذكرا أن 250 شابا وفتى معتقلون حاليا من القرية، بينهم نحو ثلاثين تقل أعمارهم عن 18 عاما.
ويعزو الناشط حفاظ القرية على جذوة المقاومة بذات الوتيرة منذ 35 إلى ما سماها روح "الفزعة"، أي سرعة استجابة الناس في أي حدث، خاصة اقتحام القرية، موضحا "ما إن يقتحم الجيش بيت أمر حتى يتداعى الناس من كل صوب وحدب، صغارا وكبارا، إناثا وذكورا ليرشقوا تلك القوات بالحجارة حتى إخراجها".
ويقول عوض إن الضغوط الناتجة عن وجود الاحتلال، بما في ذلك إقامة 5 مستوطنات على أراضيهم الزراعية، حافظت على جذوة المقاومة، لافتا إلى عامل آخر هو وجود المقبرة على الطرف الشرقي للقرية بملاصقة شارع القدس-الخليل والذي يسلكه فلسطينيون ومستوطنون، مضيفا أن الجيش يستفز المشيّعين ويغلق أبواب المقبرة بالمكعبات الإسمنتية ويخلق مبررات لمحاولة منع الدفن فيها، لكن السكان متمسكون بها حتى باتت كل حالة وفاة تعني اندلاع مواجهات.
وذكر أنه منذ عام 2000 يتمركز الجنود في نقطة عسكرية على مدخل "بيت أمر" البالغ تعداد سكانها نحو 19 ألف نسمة، ويجري توسيعها كل عدة سنوات "وهو ما أثر على مناحي الحياة".
ويبين الناشط عوض أن وجود شهيد أو جريح أو معتقل، في كل بيت، يحول دون حصول السكان على تصاريح عمل في إسرائيل لـ "أسباب أمنية" وفق تسمية الاحتلال، ولهذا فإن أغلب السكان يعملون في الزراعة أو الوظائف في القطاعين الخاص والحكومي، وعدد قليل منهم يعملون في إسرائيل، خلافا لما هو عليه الحال بين قرى الضفة، حسب قوله.