هل ما زالت كرة القدم لعبة الفقراء والمسحوقين؟

هناك اعتقاد شائع منذ عقود أن لعبة كرة القدم هي لعبة الفقراء، خاصة وأن أشهر لاعبيها بدأوا حياتهم وهم يلعبون كرة مصنوعة من بقايا القماش في الشوارع الفقيرة في أمريكا اللاتينية حفاة الأقدام، لأنهم لم يملكوا في ذلك الوقت ثمن كرة قدم حقيقية ولا أحذية رياضية، وبالتالي ارتبطت كرة القدم في أذهان العالم بالفقراء، وتحولت صورة المعدمين الذين يلعبون الكرة في أحياء البرازيل والأرجنتين المسحوقة إلى صورة رومانسية التصقت بكرة القدم، وصار الكثير منا يشجع فرق كرة القدم العالمية على أساس "بروليتاري” على اعتبار أن هذه اللعبة هي لعبة البروليتاريا العمالية المسحوقة، خاصة وأن أشهر نجومها الأوائل ظهروا في البرازيل كبيليه مثلاً، أي قبل أن تتقدم البرازيل اقتصادياً وصناعياً وتصبح من العشرة الأوائل في الاقتصاد العالمي. لكن هل يا ترى ما زالت هذه اللعبة الأولى في العالم لعبة المسحوقين فعلاً؟ أم ان الأقوياء والأثرياء في الغرب اختطفوها من شوارع الفقراء ليحولوها إلى صناعة عالمية غربية بامتياز تدر على أصحابها مليارات الدولارات سنوياً، وصارت ميزانيات بعض الأندية الغربية خرافية بكل المقاييس. لا بل إن الفقراء في هذا العالم صاروا مدمنين على متابعة الأندية الغربية، بحيث يختفي الناس من الشوارع أحياناً لمشاهدة مباراة بين منتخب ريال مدريد وبرشلونة الإسبانيين. وحدث ولا حرج عن متابعة الدوري الانكليزي أو الإيطالي أو الفرنسي. لا شك أن فريقي البرازيل والأرجنتين وبقية الفرق الأمريكية اللاتينية تحظى بدورها بشعبية عارمة في كل أنحاء العالم، لكنها بدأت تقلد صناعة الكرة الغربية وتحولها إلى "بزنس” عملاق بعيداً عن شوارع الفقراء في ريو دي جانيرو وبوينس آيرس. وبالتالي آن الأوان لأن ننظر إلى هذه اللعبة نظرة جديدة بعيدة عن نظرتنا الرومانسية البروليتارية القديمة التي اتسمت بالسذاجة والبساطة والطوباوية.

لقد أصبحت كرة القدم اليوم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتطور الانساني اقتصادياً وصناعياً وتكنولوجياً، ولم تعد لعبة الفقراء المعزولة، أي أن التطور الرياضي العام صار يتقدم يداً بيد مع التقدم في بقية المجالات الأخرى، لهذا بدأنا نرى منذ عقود أن الفرق الفائزة ببطولات كأس العالم مثلاً هي فرق تابعة لدول متقدمة علمياً وتكنولوجياً وصناعياً واقتصادياً. وقد سيطر الأوروبيون على هذه اللعبة منذ أن حولوها إلى صناعة رياضية حقيقية كما فعلوا مع كل الرياضات والهوايات الأخرى، وصارت الفرق الأوروبية هي الأقوى والأكثر خبرة وأداء وبطولة في ملاعب العالم، لأن كرة القدم الغربية واكبت التطور العام في بقية المجالات.

قد يتساءل البعض، لماذا لم تتفوق أمريكا في لعبة كرة القدم مع أنها الأقوى تكنولوجياً واقتصادياً ومالياً وعلميا وعسكرياً؟ ولماذا ننظر بعين الشفقة إلى المنتخب الأمريكي الذي يشارك في البطولات الدولية؟ والجواب على ذلك أن أمريكا لديها لعبة كرة قدم خاصة بها، وهي متقدمة ومتطورة وتعتبر صناعة رياضية بحد ذاتها تنافس كرة القدم العالمية بامتياز لكن على الصعيد الداخلي. وكذلك أيضاً هناك لعبة البيسبول والسلة الأمريكيتان اللتان تحظيان بشعبية وانتشار وقوة رهيبة على الساحة الأمريكية، وهما تدران على الأندية مليارات الدولارات لأنها أصبحت صناعة بحد ذاتها.

وماذا عن البرازيل والأرجنتين البلدين الأمريكيين اللاتينيين اللذين ينتميان عملياً إلى العالم الثالث؟ لماذا تطورت فيهما كرة القدم وأصبحت تنافس عالمياً مع الكبار، مع أن دول أمريكا اللاتينية محسوبة على نادي الفقراء والمتخلفين؟ الجواب بسيط، فالبرازيل مثلاً لم تعد محسوبة على الفقراء حتى لو كانت فيها نسبة فقر كبيرة، ولا الأرجنتين أيضاً. لمن لا يعلم، البرازيل صارت تتطور وتتقدم وتنافس على مستوى عالمي في كل المجالات، فلا تنسوا أن البرازيل قبل سنوات تقدمت على بريطانيا في إجمالي الناتج القومي، وصارت من القوى الست الأولى في العالم اقتصادياً، ولا ننسى أن صناعة السلاح تطورت بشكل رهيب في البرازيل جنباً إلى جنب مع الصناعات الأخرى، لتصبح البرازيل واحدة من أقوى عشرة اقتصاديات في العالم. هل تعلمون أيضاً أن الأرجنتين غدت عضواً في مجموعة العشرين التي تضم أقوى عشرين اقتصاداً في العالم؟ ولا ننسى أيضاً أن المكسيك التي قد يعتقد البعض أنها من العالم النامي أصبحت بدورها من مجموعة العشرين، أي أنها غدت في طليعة القوى التي باتت تقود العالم اقتصادياً وصناعياً، وبالتالي نستطيع أن نؤكد أن التطور الرياضي يمشي يداً بيد مع التطور الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي.

 قد يسأل البعض أيضاً: لماذا لا تحتل الصين مرتبة متقدمة في مجال كرة القدم العالمية؟ والجواب، نعم صحيح أن الصين لم تشارك في كأس العالم سوى مرة واحدة، لكنها اليوم تشتري الكثير من الأندية الأوروبية وتستثمر المليارات للنهوض بلعبة كرة القدم وقد تحل محل بعض بلدان أمريكا اللاتينية كمنافس كروي لأوروبا. ولا ننسى أن الصين تفوز عادة بعدد هائل من الميداليات الذهبية في الألعاب الأولمبية، وهذا يؤكد أن التقدم الرياضي في الصين لا ينفصل عن التقدم العام في البلاد.

وأخيراً نقول للذين يشجعون منتخبات كرة القدم على أساس بروليتاري رومانسي عاطفي من منظور ماركسي سخيف، عليكم أن تعيدوا النظر في تشجيعكم، فمن السخف أن تشجع فريقاً هزيلاً بائساً ينتمي إلى بلد متخلف على كل الأصعدة وتظن أنه سيتفوق على فريق أوروبي هو بالنتيجة ثمرة تطور بشري عظيم على كل الأصعدة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية الأخرى. لطالما شجعنا الفرق المستضعفة في كأس العالم لعلها تفوز على الفرق المتقدمة، وهذا طبعاً شعور عاطفي صبياني سخيف، فكيف تتوقع من فريق قادم من بلد ديكتاتوري كسوريا مثلاً يدار بعقلية عسكرية قميئة متخلفة، رجعية بائسة وقذرة، أن ينافس فريقاً قادماً من بلد متطور ومتقدم على كل المستويات؟ أليس من السخف أن تصفق لفريق مستضعف تعرف أن فرص فوزه صفر؟

أخيراً، كرة القدم أو أي رياضة أخرى يا سادة ليست مجرد لعبة بشرية، بل هي تجسيد لكل أنواع التطور البشري على كل الصعد.

    القدس العربي