حكايتي مع اللغات
لم أكن أعلم أن اللغات لها عائلات مثل البشر تماما، تنتمي إليها قبائل العالم من عرب وعجم .. دخولي بالصدفة إلى عالم الترجمة الفورية دون استعداد مسبق جعلني أمام تحد إضافي لخريج ثانوية نجح بالكاد في امتحان اللغة الإنجليزية.
أخذنا القطار أواخر الثمانينات من موسكو إلى طشقند عاصمة أوزبكستان في رحلة شاقة استمرت 4 أيام لنصل في النهاية إلى مجمع "طشقو" أو المجمع السكني الجامعي في دولة لم نكن نعلم مكانها على الخريطة ، سوى القليل عن الفتوحات الإسلامية وحكايات ألف ليلة وليلة ومؤامرات المسلسلات التاريخية في سمرقند أو بخارى المجاورة لنهر زرافشان.
حين يسألونك وقتها ما تخصصك تجيب بلا غضاضة أدرس اللغات ، وقد أصبح يوما ما مترجما أو معلما في مدرسة .. يأتيك أحدهم ممن يجيدون تثبيط العزائم ليؤكد لك عدم الحاجة لقطع آلاف الكيلومترات لدراسة لغات شرقية بائدة ، وليزيدك من الشعر بيتا بعدم جدوى دراسة اللغات في دول الاتحاد السوفيتي ، وأن بالإمكان امتلاك ناصية اللغة عبر دراسة تخصص آخر ، ربما يكون هذا التقييم صحيحا لكنه ينم عن فهم سطحي ، فدراسة اللغة لا تقتصر على حفظ الكلمات والمصطلحات فحسب ، بل تدخلك في عالم وعلم سحري من فقه وثقافات شعوب.
المهم أن بداية دراستي اللغة الروسية ارتطمت سريعا بالتهاب قصبات هوائية جعلتني وقتها حبيس غرفة في مستشفى لا أعرف مكانه حتى اليوم لمدة شهرين ، استطعت عبر لغة الإشارة أن أتعلم اللغة الروسية من الأطباء والممرضين قبل أن أدخل معترك الدراسة التحضيرية الجدية للغة في جامعتي.
كانت معلمتي صوفيا يعقوب ليفنيا يهودية الأصول إمرأة صعبة المراس ومشاكسة قليلا، لكني كنت حريصا على مفاجأتها بكلمات وعبارات خارج المنهاج ، ما أثار حفيظتها بأن لدي معلمة خصوصية.. تخرجت ورفاقي بعد عام لنكمل رحلة الدراسة الحقيقية للغات شمال القوقاز في مدينة الجبال الخمسة المسماة بيتغورسك ، والتي مكثت فيها عامين قبل انتقالي إلى جامعة موسكو الحكومية للغات العريقة والتي تأسست عام 1804 وكانت تحمل وقتها اسم "موريس توريز"،وهو سياسي فرنسي تولى رئاسة الحزب الشيوعي الفرنسي من 1930 حتى وفاته عام 1964.
اللافت في دراسة اللغات أنك تعيش في قارب صغير على سطح بحر كبير يضم أكثر من 7 آلاف لغة حية حول العالم، وتكتشف أيضا أنك في صومعة صغيرة في عالم يعج بالثقافات والعادات التي لا توصلنا إليها القراءة وحتى المشاهدة.
إنك باختصار تتعرف على عائلات كالبشر وتكتشف أن عالمنا يتبع قبيلة اللغات الآفروآسيوية ، وتتعرف على لغات الشعوب الأسترونيزية، والهندية الأوروبية ، والنيجيرية والكنغوية ، والتبتية الصينية والغينية الجديدة والقائمة طويلة للغات وتفرعات العائلات والأنساب . لكم أن تتخيلوا وجود لغات مقدسة مثل العربية والعبرية والسنسكريتية والارامية واليونانية واللاتينية. ولغات يمكن وصفها بالرومانسية وغيرها من بحور اللغات.
هناك لغات جرمانية مثل الإنجليزية والالمانية والسويدية والنرويجية والدانمركية ولغات لاتينية وبالمناسبة تعرفت بالصدفة أنني أدرس لغة تنتمي إلى عائلة اللغات السلافية وهي الروسية وتضم هذه العائلة اللغات الأوكرانية والصربية والبوسنية والبولندية.
الحديث عن عائلات اللغات لا يمكن تلخيصه في سطور فهناك لغات هجينة ولغات حية وأخرى ميتة ولغات قابلة للاختفاء وهناك لغات مريضة لا يحافظ أهلها عليها .
المؤسف أننا نلقي بأزماتنا كل صباح ومساء على الآخر ، كما نعاني من الاسلاموفوبيا الغربية ولا نتقن مخاطبة الشعوب بلغاتها ، ولم ننجح حتى في إيصال لغتنا العربية للمستوى الذي تستحقه بين لغات العالم .. تخيل اتقانك التحدث بثلاث أو أربع لغات ، وتعتقد أنك امتلكت مفاتيح المعرفة وتعرفت على ثقافة شعوب بلغتها الأم ، وفي هذا العالم آلاف اللغات والثقافات التي نجهلها تماما في حياتنا الضيقة.