فيلم "السباحتان".. حينما تلقي بنفسك في البحر هربا من الجحيم

حياة يومية عادية مفعمة بالأحلام البريئة لفتاتين في عمر المراهقة، تدور أيامهما بين المرح واللهو وممارسة رياضة السباحة، تتحول فجأة إلى جحيم وتهديد يومي بالقتل يدفعهما للهرب سعيا إلى النجاة، حتى لو كان السبيل الوحيد لذلك هو القفز في البحر حرفيا. حكاية مفعمة بالمشاعر مستوحاة من قصة السباحة السورية يسرا مارديني وشقيقتها سارة، قدمها فيلم "السباحتان" (The swimmers) للمخرجة الويلزية من أصل مصري سالي الحسيني. عُرض الفيلم للمرة الأولى على منصة "نتفليكس" في الثالث والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وسرعان ما تصدر قوائم الأكثر مشاهدة، كما حقق استقبالا مميزا عند عرضه الأول في الدورة الرابعة والأربعين من مهرجان القاهرة السينمائي.

نحن لم نحلم بأكثر من حياة كالحياة
تبدأ أحداث الفيلم عام 2011 بمشاهد لطيفة تشع بالبهجة، في مسبح ممتلئ بالأطفال اللاهين، حيث تدور الحياة اليومية للشقيقتين يسرا وسارة مارديني حول تمارين السباحة التي تعلَّماها قبل أن يتعلما السير، الأب مدرب سباحة ويرغب في تحقيق حلمه بالمشاركة في الأولمبياد من خلال ابنتيه، وتحديدا يسرا التي تُظهِر تفوقا والتزاما ملحوظا مقارنة بشقيقتها الأكثر تمردا على سلطة الأب.

توضح المشاهد الأولى المفارقة الحادة بين حياتهما قبل وبعد الحرب، فحين تشاهد يسرا مقطع فيديو عن الثورات المصرية والتونسية تخبرها أمها ببساطة أن هذا لا يحدث (هنا)، لكن العالم ينقلب ببساطة في المشهد التالي مع الانتقال إلى عام 2015. تتلاشى الحياة الهادئة للفتاتين، ويصبح مجرد السير في الشوارع أو ممارسة التمارين مغامرة قد تعرضهما لجميع المخاطر، بداية من تحرشات الجنود في الطرقات وحتى القنص العشوائي وقصف المسبح أثناء التدريب.



تخطط الفتاتان للنجاة عبر الهجرة إلى ألمانيا بصحبة ابن عمهما، على أن تتقدم يسرى التي لم تصل إلى عمر الثامنة عشرة بعد بطلب للم شمل العائلة يسمح لأبيها وأمها وشقيقتها الطفلة باللحاق بهما، وهو ما يعني الاضطرار لعبور البحر في ظروف لا ترحم عرَّضتهم لخطر الغرق، واستغلال المهربين، ومحاولات الاستغلال الجنسي، وهي الظروف التي يواجهها بالفعل ملايين المهاجرين الذين اضطروا للهرب من جحيم أوطانهم من أجل الحصول على فرصة لحياة أفضل.

القفز في البحر فرارا من الموت
طبقا لتقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، اضطر أكثر من 89.3 مليون شخص حول العالم للفرار من ديارهم، منهم 27.1 مليون لاجئ، وهو ما يعني أن واحدا من كل 88 شخصا من سكان العالم اضطر للخروج قسرا من موطنه. وبلغ عدد الأطفال (أقل من 18 عاما) الذين طلبوا اللجوء دون والد أو وصي 21 ألفا في عام 2021 وحده. (1)



لم تكن قصة الشقيقتين سارة ويسرا مارديني سوى واحدة من بين ملايين القصص، فبعد وداع عائلي حزين، تسافر الفتاتان مع ابن عمهما إلى تركيا، ومن هناك يقررون الهرب في قارب مطاطي إلى جزيرة لسبوس اليونانية. يفاجؤون بأن القارب يحمل أكثر من ضِعْف حمولته، يتعطل القارب في منتصف البحر ويوشك على الغرق، وهنا تقرر الفتاتان القفز في البحر، وبدافع من الشعور بالمسؤولية تجاه بقية الركاب، تمسك كلٌّ منهما بالحبل المربوط بالقارب كي يتمكنا من الوصول سباحة إلى شاطئ الجزيرة. في غضون ذلك، يستعرض الفيلم العديد من الأخطار الأخرى التي يواجهها اللاجئون، وخاصة النساء، إذ تشير التقارير إلى تعرض واحدة من كل خمس لاجئات للاستغلال والعنف الجنسي.

بعد الوصول إلى ألمانيا تتمكَّن الفتاتان من استئناف تمارينهما، لتتمكَّن يسرا أخيرا من تحقيق حلمها بالمشاركة في دورة الألعاب الأولمبية لعام 2016 المقامة في ريو دي جانيرو بوصفها عضوة في فريق اللاجئين. تمكَّنت يسرا من تحقيق مرتبة جيدة في سباق المئة متر فراشة محتلة المرتبة 41 من أصل 45 مشاركا. وهكذا عبرت مارديني في سباق الفراشة في الجولة الأولى، لكن الرقم الذي حققته لم يؤهلها إلى نصف النهائيات بأولمبياد ريو دي جانيرو، وهو ما لم يُشر إليه الفيلم صراحة. (2)

صورة سينمائية استعارية

المخرجة سالي الحسيني (غيتي)
اعتمدت المخرجة سالي الحسيني في صورتها السينمائية على استعارات حادة شديدة الحساسية التقطتها عدسة المصور السينمائي كريستوفر روس. يمكننا رؤية ذلك بوضوح كبير في مشهد وصول الشقيقتين إلى الجزيرة اليونانية، حين ترتفع الكاميرا في لقطة موسَّعة من زاوية عين الطائر، تكشف لنا كيف غطى سطح الجزيرة عدد لا نهائي من سترات النجاة، بما يكشف عن مدى اتساع أزمة اللاجئين.

اللغة البصرية المجازية نفسها اعتمدت عليها المخرجة طوال الفيلم، فحين يبدأ القارب في الغرق، ويقرر ركابه التخلي عن كل ما يثقلهم من أمتعة زائدة، تقرر يسرا الإلقاء بالميداليات التي حصلت عليها في بطولات السباحة السابقة في البحر، نشاهد الميداليات وهي تتهاوى إلى القاع، ما يكشف عن عمق التضحية في سبيل النجاة، لكي تنجو لا بد أن تدفع الثمن، تترك وراءك أهلك وبيتك وحياتك التي تعرفها بأكملها، وتتخلى عن هويتك الأصلية وتقبل بهوية جديدة بصفتك لاجئا. وربما لا يكفي ذلك كله، فيصبح عليك أن تلقي بجسدك نفسه في البحر قربانا لحياة جديدة تأمل أن تبدأها حينما تصل إلى الشاطئ الآخر.

في البحر وبينما لا شيء سوى الموج المترامي يحيط بهما، ويتراءى لهم من بعيد حافة الشاطئ، كان على يسرى أن تتذكر عبارة قالها لها والدها، أن تعرف طريقها وتركز عليه وتسبح دون أن تلتفت، وهكذا في لقطة أخرى من زاوية مرتفعة ترسم لنا عين المخرجة أمام الفتاتين خطين وهميين بمنزلة حبلين يحددان طريقهما للسباحة في خط مستقيم حتى الوصول إلى الجزيرة، لأن الملتفت لا يصل.

في حديث لها مع "دويتش فيلله" تقول السباحة يسرا مارديني المقيمة حاليا في ألمانيا إن تلك اللحظة كانت أصعب لحظات حياتها، حيث رأت الجزيرة أمام عينيها وشعرت أنها ربما لا تتمكن من الوصول، كانت تدرك أن بإمكانها وشقيقتها الوصول إلى هناك، حيث إنهما نشأتا وتدربتا على السباحة لمسافة تصل إلى 12 كيلومترا يوميا، لكن شعورهما بالمسؤولية، هو ما دفعهما للإمساك بالحبل الملتف حول القارب لمساعدة بقية الركاب.


في الواقع، لقد استعانت المخرجة سالي الحسيني في تصوير هذا المشهد، بالإضافة إلى الممثلين الأساسيين والثانويين، بمجموعة من الأفراد الذين مروا بالفعل بتجربة الهروب عبر قارب مطاطي، كي تتمكن من تصوير مشاعر اللاجئين الواقعية بحسب قولها. (3)

الخطوط الفرعية والخط الرئيسي
بالإضافة إلى تركيز الفيلم على حلم يسرا مارديني بالوصول إلى الأولمبياد، تناول أيضا علاقة كلا الشقيقتين بعضهما ببعض، وعلاقتهما بالأب الذي منعته ظروف التجنيد في شبابه من الانضمام للأولمبياد، فقرر أن يورث حلمه لابنتيه، وبينما تلقت يسرا الحلم بشغف وقررت أن تحققه، كانت سارة على العكس تمارس تمردا مستمرا ضد حلم شعرت أنه فُرض عليها ولا يخصها. لقد ظهر هذا بوضوح منذ المشاهد الأولى للفيلم، فبينما كانت يسرا تأخذ التمارين بمنتهى الجدية، كانت سارة هي المتمردة دائما التي تمارس مرحها حتى خلال التمرين، ظل هذا الصراع بين اختلاف تلقي الشقيقتين لحلم الأب دائرا حتى قرب النهاية، حيث تفجر في مشهد عنيف للمواجهة بينهما، ظهرت على إثره سارة وهي تقص شعرها الطويل أمام المرآة، وكأنها تتخلص مما علق بها من الماضي، من كل ما لا يشبهها، لتبدأ بداية جديدة تُلقي فيها بما علَّقه الآخرون عليها من آمال وتتشبَّث بخياراتها الخاصة، وتعلن لشقيقتها أنها قررت العودة إلى جزيرة ليسبوس لمساعدة بقية المهاجرين.

محنة سارة الأساسية أنها وُضعت منذ البداية في موضع لا يخصها، ودُفعت لسباق لا تحلم بالفوز به، سارة التي رغم أنها تبدو للناظر العابر أقل التزاما من شقيقتها، وهو الحكم الذي أطلقه عليها الأب في بداية الفيلم في مقارنته لها بشقيقتها، كانت على العكس، ولديها شعور كبير بالمسؤولية تجاه الآخرين، ظهر ذلك في الكثير من المشاهد، فهي التي فكرت في خطة الهجرة حلًّا لإنقاذ بقية أفراد الأسرة، كما بادرت بالقفز في البحر لإنقاذ بقية الركاب قبل أن تتبعها يسرا، وحين أرادوا عبور الحدود اختارت أن تخاطر بركوب سيارة أخرى لمساعدة ركابها الذين لا يتحدثون الإنجليزية، حتى لو كان الثمن هو الافتراق المؤقت عن شقيقتها، وتكلل الأمر أخيرا بتطوعها للعمل في مساعدة وإنقاذ اللاجئين.



اختار الفيلم التركيز على حلم الأولمبياد، وانصرف في الربع الأخير لمتابعة تحقيقه، حتى إنه تحول إلى فيلم آخر يشبه بقية الأفلام الرياضية، وتجاهل متابعة الخط الخاص بقصة سارة. ربما كان بإمكان الفيلم أن يمنح أبعادا أعمق للعلاقة بين الشقيقتين، وعلاقتهما بالوالد الذي يسعى لتحقيق حلمه من خلالهما، وهو فخ يقع فيه الكثير من الآباء كل يوم، لكنه اختار الانحياز للخط الأساسي الخاص برحلة البطلة من لاجئة إلى سباحة أوليمبية.

اختارت المخرجة سالي الحسيني الشقيقتين منال وناتالي عيسى للقيام بدور الشقيقتين مارديني على الشاشة، وهو ما ساهم في خروج الأداء أكثر طبيعية، وظهرت ديناميكية وعمق العلاقة بينهما بوضوح مما منح مشاهدهما صدقا عوَّض الكثير من نقص خبرة الأداء التمثيلي. الطريف أن منال هي مَن تقدمت للقيام بتجربة أداء لدور سارة، بينما كانت ناتالي تدرس الأدب ولم تكن تفكر في التمثيل، لكن حين عرفت المخرجة بوجود الشقيقة الصغرى طلبت منهما إجراء تجربة أداء، وحين رأتهما معا شعرت على الفور بالكيمياء بينهما وقررت اختيارهما لأداء دور الأختين مارديني.

المفارقة أن أيًّا من الأختين عيسى لم تكن تُجيد السباحة قبل تصوير الفيلم، وقد دربهما سفين، المدرب الألماني ليسرا مارديني أثناء تأهلها للأولمبياد، كما استعانت المخرجة بيسرا الحقيقية لأداء بعض مشاهد السباحة في الفيلم، خاصة مشاهد سباق ريو. (4)

الأغاني واللغة

لفت اختيار الأغاني المصاحبة للفيلم أنظار المشاهدين والنقاد، حيث اختارت المخرجة العديد من الأغاني المصرية الرائجة في الوقت الحالي التي لا ترجع إلى زمن الأحداث، من بينها مثلا أغاني فريق شارموفرز، وقد صرحت أنها رأت فيها تعبيرا أصيلا عن روح الشقيقتين، كما وجدت فيها رابطا بين الجيل الحالي والشقيقتين.

جاء اختيار اللغة محيرا للغاية ومربكا للمُشاهد، فبينما اختيرت اللغة العربية للجزء الذي دار في سوريا قبل السفر، مع بعض الإنجليزية في الحوارات المتبادلة بين الشقيقتين، تحولت اللغة المستخدمة إلى الإنجليزية في بقية أحداث الفيلم تقريبا. يمكن تقبل ذلك بعض الشيء باعتباره وسيلة لتواصل الشقيقتين مع بقية ركاب القارب المطاطي الذين جاؤوا من جنسيات مختلفة، أو بعد وصولهما إلى ألمانيا، لكن المتلقي يجد بعض الصعوبة في أن تكون الأحاديث بلغة أخرى غير اللغة الأم في لحظات استعادة الذكريات على سبيل المثال، أو في لحظات الغضب أو الألم، التي عادة ما يلجأ فيها اللسان ولو بغير وعي إلى لغته الأم لا اللغة المستعارة. وقد بررت المخرجة ذلك بقولها إن اختيار اللغة الإنجليزية كان من أجل ضمان وصول الفيلم إلى عدد أكبر من المشاهدين حول العالم، وإنها أضافت اللغة العربية كي يصبح العمل أكثر واقعية.

معارضة وانتقادات


رغم النجاح الكبير الذي حققه الفيلم، فقد واجه استياء كبيرا من المعارضين السوريين لغياب أي إدانة لجرائم النظام السوري. اختار الفيلم التركيز على الجانب الإنساني والانتصار للحق في الحياة، وعدم تحميل الأحداث أي رسائل سياسية، فلم يُشر إلى الجهة المسؤولة عن سقوط القذائف على سبيل المثال، ولم يُشر بوضوح إلى انتماء المسلحين المنتشرين في الأزقة سواء كان إلى السلطة أم ضدها، كما تجاهل محاكمة سارة مارديني بتهمة الاتجار بالبشر واكتفى بالإشارة إليها سريعا في نهاية الفيلم.

الفيلم من بطولة ناتالي عيسى، منال عيسى، أحمد مالك، جيمس كريشنا فلويد، علي سليمان، وكندة علوش، ومن إخراج سالي الحسيني التي شاركت جاك ثورن في كتابة القصة والسيناريو أيضا، واستطاع تسليط بعض الضوء على المأساة الإنسانية التي يواجهها اللاجئون، لكنها بالتأكيد تظل أعمق مما ظهر على الشاشة. ورغم ما بدا من ازدحام سكن اللاجئين وانعدام الخصوصية، الذي اندهش أمامه المدرب الألماني سفين، فإنها تظل أفضل حالا من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين على سبيل المثال التي بُنيت منذ أكثر من سبعين عاما كي تكون سكنا مؤقتا، لكنها لا تزال تؤوي آلاف الفلسطينيين في ظروف مأساوية يعانون من مختلف مساوئ البنية التحتية.

وبينما استطاعت يسرا عبور خطر البحر والوصول إلى حلمها، غرق في العام الماضي وحده أكثر من 3000 شخص حاولوا عبور البحر المتوسط في قوارب مطاطية سعيا وراء حلم النجاة من الموت في بلادهم.
 
المصدر : الجزيرة