عبد الله التل وتعلّقه بالقدس . . !

 
في هذه الأيام التي ينتهك بها الصهيوني المتطرف ( بن غفير ) ومن هم على شاكلته من قطعان اليهود، ويدنسون باحات المسجد الأقصى، تحت حماية قوى الأمن الإسرائيلية، أمام مرأى ومسمع مسؤولي الأمة العربية والإسلامية، ولا نسمع إلا عبارات الإدانة الخجولة، فنتذكر أحد أبطال الأمة الذي تعلّق في الدفاع عنها في أواسط القرن الماضي، لعل ذلك يستثير همم من نامت حميتهم، في الثأر للقدس ومسرى رسول الله عليه الصلاة والسلام.
عبد الله التل هو أحد القادة الأردنيين، الذين لعبوا دورا بطوليا، وصنعوا تاريخا عسكريا مشرّفا، في الحرب العربية / الإسرائيلية في فلسطين عام 1948، حيث أسندت له مهمة دخول القدس على رأس الكتيبة السادسة، لتطهير المدينة المقدسة من العصابات اليهودية، التي كانت تقوم بهجمات متكررة عليها محاولة احتلالها.

ونتيجة لما تحلى به النقيب ( آنذاك ) عبد الله التل من كفاءة عسكرية وحنكة سياسية، فقد برز اسمه على الساحة العربية والدولية، وأصبحت إنجازاته العسكرية وتصريحاته السياسية، تتصدر الجرائد العربية والعالمية، فاستحق بذلك لقب ” بطل معركة القدس ".

استطاع عبد الله بإنجازاته المميزة، أن ينفذ إلى قلب جلالة الملك عبد الله بن الحسين، فمنحه أربع ترقيات في أقل من ست سنوات. وكان آخر منصب تولاه برتبة عميد، قائدا للقوات العربية ثم حاكما عسكريا لمدينة القدس. وحسب اعتقاده فقد كان تعيينه في المنصب الأخير، محاولة من الجنرال كلوب رئيس أركان الجيش العربي، لإبعاده عن قيادة القوات العربية في القدس وتحديد صلاحياته.

لم يقبل عبد الله بمنصب الحاكم العسكري للقدس، إلا بعد أن طلبه الملك عبد الله وخاطبه قائلا : أنت تعود للجيش إذا حاول اليهود الاعتداء على القدس، ولا أقبل لك عذرا في الاختلاف مع قائد الجيش، والضباط الإنجليز من ضيوفنا. فاستجاب عبد الله التل لأمر الملك.

وعندها كتب الرسالة التالية إلى رئيس الأركان : " إنني كحاكم عسكري للقدس أعتبر أن مسؤوليتي نفس مسؤولية الحاكم العسكري الإنجليزي في برلين. فإذا لم تخول لي نفس الصلاحية التي يتمتع بها ذلك الحاكم، فإنني لا أستطيع تحمل المسؤولية الجسيمة أمام الله والأمة والملك.

وإذا تعذر تلبية طلبي فإنني أرجو إعفائي من الخدمة، ولن أعجز عن خدمة الوطن والملك، بما يرتاح إليه ضميري وفي غير هذا المجال. وعندما عاد عبد الله التل إلى القدس مساء يوم الجمعة 1 / 10 / 1948، أذاع على أهل القدس البيان التالي:
يا أهل القدس الكرام،

لقد غبت عنكم ولكن من أجلكم، والآن أعود باسم الله والملك والشعب حاكما عسكريا للقدس الشريف. وإني لا أخاطبكم بلغة الحكام، بل كصديق عرف جراحكم، وسيحاول ما استطاع تضميدها.أيها القوم،

إني لا أتنبأ عن المستقبل ولا أقرأ الغيب، ولكني واثق من أنكم أقوياء، ستعيدون بناء فلسطين وسنعاونكم على بنائها، وأنتم طليعة المجاهدين الذين ثبتوا، فأوصيكم بالصبر ثم الصبر. أما أنا فمنكم وإليكم، فامهلوني قليلا لأعيد تشكيل الجهاز الإداري، الذي سيوفر لكم لوازمكم. وإني أعدكم بمحاربة الاستغلال وعَبَدة النقود، كما أحارب اليهود، والله الموفق على كل حال.

يقول الفريق مشهور حديثة الجازي رحمه الله في حديثه عن عبد الله التل ما يلي: " بحثت عن عبد الله التل، فوجدته يجلس وحيدا تحت نخلة، يسند ظهره إليها، يتناول حصى من الأرض ويرميه بصمت. كنت فب أوائل العشرين من عمري، وكان هو في أوائل الثلاثين.

كنت أسمع عن شجاعته وعن عقيدته القتالية وعن حماسته، لكنني في تلك الليلة رأيت وجها آخر منه، اقتربت منه وسألته: كيف ترى الأمور؟ فردّ دون مقدمات: ( إنهم يقدموننا قربانا )، ولم أفهم فسألته: من تعني ؟ فرد بكلمة واحدة: ( الأنظمة ).

واستوضحت منه، فالتفت إلي وقال: أتعرف كم عدد جيوشنا التي سمعت هياجها وصياحها قبل قليل، الجيش الأردني، والمصري، والعراقي، والسوري، واللبناني، والسعودي، وجيش الإنقاذ، ومعه جيش الجهاد المقدّس، كل هؤلاء لا يزيدون عن عشرة آلاف، واليهود الذين نسميهم عصابات، يملكون أكثر من 120 ألف مقاتل. ما معنى هذا يا مشهور؟ ووجمت، لم يكن لدي جواب.

لكنه قال : هل تعتقد أنهم يريدون تحرير فلسطين بهذه الطريقة أم تسليمها ؟ هل تعتقد أنهم يريدون لنا نحن أفراد الجيوش السبعة أن نقاتل أم ننسحق ؟ إنهم يبعثون بنا إلى مجزرة يا مشهور. إنهم يبعثون بنا إلى مذبحة جماعية. أرأيت شلّة من الأغنام تُحبس في زريبة، ثم تمتد إلى أعناقها آلاف السكاكين، ها نحن !

ولم أرَ بؤسا ولا يأسا في وجه رجل كما رأيته في وجهه ذلك اليوم، فأخذتني بعض الحميّة وقلت : ولكن هذه النفسية ستحطم جيشنا. فردّ : جيشنا لا يدري شيئا، وسيبقى لا يدري شيئا، أما أنا وأنت والذين يعرفون، فعلينا أن نقاتل حتى حزّ الحلاقيم . . هذا قدرنا ولا فرار منه.
* * *
ومع أن عبد الله التل أدى واجبه العسكري والسياسي، في المواقع التي أشغلها خلال الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، إلا أن النتائج العامة للحرب، وضياع جزء كبيرا من فلسطين، وقيام دولة إسرائيل على أشلائه، فقد تركت طابعا حزينا في تفكيره واتجاهاته المستقبلية ".

ومن الشهادات المهمة في كفاءة عبد الله التل هي شهادة الأعداء بلا مجاملة، فقد قال الجنرال ديان : عندما قابلت عبد الله التل، ترك انطباعا في نفسي، بأنه كان متفوقا جدا على الضباط والسياسيين العرب الآخرين، الذين واجهتهم في تلك الفترة. فقد كان عبد الله التل يكره المسؤولين الإنجليز، وكان يحتقر من يتملق لهم.

أما الجنرال حاييم هيرتزوغ فقد قال : كان على الساجة الأردنية شخصيتان رئيسيتان هما : الجنرال كلوب قائد الجيش العربي الأردني ممثلا للإمبراطورية البريطانية، وكان عبد الله التل الطل الطاهر الذي قدم نفسه على مذبح التاريخ.

ومن الشهادات العربية التي قيلت بعبد الله التل ما يلي :

قال الأديب عيسى الناعوري : كان لعبد الله التل مجدا وبطولات، وكان لاسمه بريق يخطف الأبصار، لم يتوفر لغيره من العسكريين العرب، الذين قاتلوا في فلسطين عام 1948، ولا في غيرها من الحروب اللاحقة.

كما قال الأب إبراهيم عياد : كان البطل عبد الله التل منقذ القدس وحامي أهلها والأماكن المقدّسة فيها، صبوح الوجه، مهيب الطلعة، كريم النفس، محبا لأهالي القدس من مسلمين ومسيحيين، ويعمل على تخفيف معاناتهم ما استطاع، فأحبوه ووثقوا به، وكان حضوره مصدر الاطمئنان لهم. ولا يمكن وصف تعلق سكان القدس القديمة بهذه الشخصية الفذّة، التي جمعت مع الشجاعة والحكمة، مشاعر المحبة والعطف والحنان.

وأتساءل اليوم : لو كان عبد الله التل ورفيقاه حابس المجالي ومشهور حديثة الجازي، يشاهدون ما يفعله المتطرفون اليهود، من تدنيس لساحات المسجد الأقصى، تحت حماية قوى الأمن الإسرائيلية، هل سيصمتون على ما يجري، أم سيثورون ويمزقون كل الاتفاقيات المذلّة مع هذا العدو المتطرف، والذي لا يحترم اتفاقيات ولا يعترف بصداقة عربي.

رحم الله أبطال الأردن، عبد الله التل وحابس المجالي ومشهور حديثة الجازي. الذين صنعوا مجدا للأمّة العربية، وسطروا صفحة ناصعة في التاريخ الحديث، يفتخر بها كل عربي شريف، راجيا الله أن يجزيهم خير الجزاء ويسكنهم فسيح جناته.